تعد ظاهرة "الأموال الساخنة- أموال المضاربات التي تدخل الاقتصادات بسرعة وتخرج منها بسرعة أيضًا- من أهم التداعيات السلبية لظاهرة العولمة، حيث يكون بوسعها الدخول مستهدفة بعض الأسواق لا سيما التي يتمتع اقتصادها بنمو عال لتحقيق أرباح سريعة والخروج، بالإضافة إلى أموال الاستثمارات "السريعة" والتي عادة لا تمكث لأكثر من عام.
تقويض للاقتصادات الناشئة
وأسهمت تلك الظاهرة بشدة في العاصفة التي ضربت العديد من الاقتصادات الناشئة التي تراجعت بمعدلات نموها بشكل حاد خلال 2018، حيث تراجع النمو التركي من 4% إلى 2.5%، وتراجع النمو الأرجنتيني من 3% إلى 1% وتزعزع الاستقرار المالي والاقتصادي للعديد من تلك الدول.
فمع ارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية خلال العام الماضي أربع مرات وصولًا إلى مستوى 2.5% أصبحت الأسواق الأمريكية أكثر جذبًا للمستثمرين من الأسواق الناشئة، لا سيما أن الفائدة الأمريكية كانت قبل 3 أعوام بالضبط قرب الصفر عند 0.25% بما يعكس ارتفاعا لافتًا.
واضطرت تلك الدول لاتخاذ تدابير متعددة لعل أهمها رفع أسعار الفائدة، والتي دفعت الأرجنتين لتصبح الدولة الأعلى من حيث نسبة الفائدة قرب 60% في أغسطس الماضي في محاولة منها لوقف نزيف "الأموال الساخنة" ودعم عملتها.
وتقدر السلطات في بوينس آيرس أنه إذا لم يتم اتخاذ تلك التدابير فإن معدل النمو الرقمي في الأرجنتين كان ليصبح رقمًا سالبًا (حوالي -2% في بعض التقديرات) وهو من شأنه إعادة البلاد مجددًا إلى دوامة الديون والإفلاس التي لم تتخلص من آثارها حتى الآن.
البرازيل تختلف
ويمكن ضرب المثل بالبرازيل في مجال التعامل الإيجابي مع ظاهرة الأموال الساخنة، فالدولة اللاتينية تبقى أسعار الفائدة فيها عند حدود 6.5% بما لا يجعلها جذابة للغاية بالنسبة لرؤوس الأموال العابرة، وفي الوقت نفسه تفرض رقابة صارمة على الأسواق المالية لتجنب حدوث مضاربات كبيرة على الأسهم أو العملات.
كما فرضت البرازيل ضرائب تصل إلى 50% على رؤوس الأموال التي لا تستقر لأكثر من عامين في البلاد، وذلك بهدف مواجهة ظاهرة الأموال الساخنة، وهي بذلك لا تمنع دخول رؤوس الأموال ولكنها أيضًا تحول دون تحولها لمركز مضاربات بما يضر بالاقتصاد المحلي.
ولعل ما يساعد البرازيل على القيام بذلك حقيقة تحقيقها لنسب نمو بين الأعلى في الدول الناشئة، وتمتع اقتصادها بقدر كبير من الاستقرار بوصفه عنصر جذب للاستثمارات "العادية" أو متوسطة وطويلة المدى، بسبب تدني نسب الدين المحلي وكذلك الأجنبي واستقرار السياسات الاقتصادية والمالية.
وعلى طرف النقيض تبرز الهند، التي تعاني كثيرًا من ظاهرة الأموال الساخنة بسبب فرض قيود محدودة للغاية على حركة الاستثمارات من وإلى البلاد، وعلى الرغم من فائدة ذلك في تشجيع الاستثمارات الجادة طويلة المدى، إلا أنها تجعل الهند من أكثر دول العالم معاناة من ظاهرة الأموال الساخنة –وفقًا لجامعة "نيودلهي"- رغم استقرارها النسبي.
مستقبل الظاهرة
اللافت أن زيادة حركة الأموال الساخنة أتت على الرغم من عدم وقوع الاقتصاد العالمي –حتى الآن- في براثن الركود أو التراجع، بما يؤكد اتجاه تلك الحركة للتصاعد خلال الأشهر القادمة، خاصة حال تزايد الاضطرابات المالية والاقتصادية حول العالم.
وما يؤكد ذلك حقيقة أن تلك الظاهرة أثرت بشدة خلال الأسابيع الماضية في السوق الأمريكية نفسها، من خلال بيع الكثير من المستثمرين لما لديهم من أسهم في البورصة الأمريكية، ولا سيما مؤشر "داو جونز" مع عدم إقدامهم على شراء أسهم أخرى وسحب الأموال من السوق بشكل كامل بما أحدث تذبذبًا وتراجعًا كبيرًا في السوق.
ومع الاضطرابات الاقتصادية المتوقعة خلال 2019 من مواجهات اقتصادية وإجراءات حمائية متبادلة وربما حتى أدى إلى نشوب حروب تجارية واسعة النطاق، وركود يقترب من طرق الأبواب، يبدو أن ظاهرة الأموال الساخنة ستتنامى في المستقبل القريب ولن تنحسر.
وربما تزداد معاناة الولايات المتحدة خاصة من تلك الظاهرة، فمع تدني نسبة الفائدة في الولايات المتحدة مقارنة بالاقتصادات الناشئة التي اضطرت لرفعها كثيرًا لكي تصبح مركزًا لجذب الاستثمارات في ظل دفاعها عن عملاتها، عادت الأموال الساخنة للتدفق مجددًا على الأسواق الناشئة على حساب الولايات المتحدة.
واللافت هنا أن توقعات "ازدهار" الأموال الساخنة في الفترة المقبلة تترافق مع أخرى تؤكد ازدهار أشكال الاستثمار الآمن في العقار والذهب، ليتأكد أنه في ظل الاضطرابات الاقتصادية عادة ما تلجأ رؤوس الأموال إلى الاستكانة للاحتفاظ برأس المال نفسه دون تراجع، أو إلى الحركة الدؤوبة بحثًا عن أكبر مكسب ممكن، لتبدو الأموال الساخنة أقرب لـ"تجار الحروب".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}