أمضى عالم الفيزياء الشهير "غاليليو غاليلي" فترة طويلة من حياته محاولًا إثبات صحة نظريته التي تنص على أن سرعة وصول أي جسم ساقط تجاه الأرض لا تعتمد على وزنه بالأساس، وإنما تتوقف على مدى قدرته على مقاومة الهواء، بافتراض أن جاذبية الأرض للأجسام متساوية بغض النظر عن حجمها أو ثقلها.
وبطبيعة الحال، واجه العالِم الإيطالي صعوبات تقنية في إثبات صحة اعتقاده، لعل أبرزها؛ الآلية التي يمكنه من خلالها إسقاط جسمين مختلفين في ظل غياب الهواء، وكان على العالَم الانتظار مئات السنوات لإجراء تجربة مشابهة، لكن هذه المحاولة جرت على سطح القمر خلال إحدى بعثات "أبولو" التي أرسلتها "ناسا".
لكن قبل فترة، استطاع العلماء حسم الجدل حول نظرية السقوط الحر لـ"غاليليو" عندما لجأ عالم الفيزياء الإنجليزي ومقدم البرامج العلمية "برايان كوكس" إلى منشأة نووية قديمة في الولايات المتحدة تستخدمها وكالة الفضاء الأمريكية كمرفق لإجراء اختبارات تخص الفضاء الخارجي، في تجربة وثقتها شبكة "بي بي سي".
في غرفة الاختبارات التابعة للمنشأة التي تديرها "ناسا"، يمكن للمشغلين تفريغ الهواء، لكن قبل فعل ذلك، علق "كوكس" كرة بولينج وحزمة من الريش أعلى الغرفة، ثم أسقطهما فجأة، لتهبط كرة البولينج سريعًا وترتطم بموقع السقوط، بينما أخذ الريش يترنح في جميع الاتجاهات حول موقع الهبوط متأخرًا كثيرًا عن الكرة، وهو ما كان متوقعًا.
وعندما حان موعد التيقن من صحة نظرية "غاليليو"، فرّغ "كوكس" الهواء من غرفة الاختبار (نحو 30 طنًا من الهواء) وأعاد المحاولة، فكانت المفاجأة.. على عكس التجربة السابقة، هبطت حزمة الريش وكرة البولينج على خط متساو لم يتخط أي منهما الآخر، وكان ملاحظًا أيضًا أن الريش لم يتبعثر يمينًا ويسارًا كما حدث من قبل، ليصيبا في نهاية المطاف موقع السقوط بدقة في آن واحد.
مع غياب مقاومة الهواء في التجربة الأخيرة، وفي ظل تمتع الجسمين بفرص متساوية في بلوغ موقع الهبوط، استطاعت حزمة الريش مجاراة كرة البولينج والوصول معها في نفس الوقت إلى الهدف، وإن كان تأثير كرة البولينج عند الارتطام مختلفًا، حيث تسببت في كسر نقطة السقوط (صندوق خشبي) في التجربتين بينما لم يستطع الريش فعل ذلك، لكنه على أي حال أمر يعتمد على صلابة ووزن الجسم.
الخلاصة أن توفير مناخ ملائم خال من المؤثرات، يسمح للأجسام بمنافسة عادلة عند السقوط، ويضمن لها الوصول إلى الهدف بالضبط وبنفس السرعة، بغض النظر عن التأثير الذي ستحدثه هذه الأجسام عند بلوغ مرادها، والذي يتوقف على القوة التي يتمتع بها كل منها.
وبعيدًا عن القواعد التي تحكم الطبيعة الفيزيائية للأشياء، فإن لوائح مشابهة تصيغ (أو ينبغي أن تفعل ذلك) العلاقة بين اللاعبين في بعض جوانب الاقتصاد والأعمال وبين العوامل التي تنعكس عليهم وتؤثر في مسارهم، تشكل ضمانًا لنشاط تجاري أكثر استقرارًا وعدلًا، يعود بالنفع على الاقتصاد الكلي.
ولنفترض معًا أن كرة البولينج هي شركة كبيرة، وحزمة الريش هي شركة صغيرة، وأن غرفة الاختبار هي المناخ الأوسع الذي تمارس فيه هذه الشركات نشاطها والصندوق الخشبي هو السوق والعملاء المستهدفون، وفي هذه الحالة سيكون "كوكس" القائم بدور الجهات التنظيمية والرقابية وربما حتى بدور المشرعين والمسؤولين الحكوميين.
وإذا لم يتدخل "كوكس" لضمان تهيئة مناخ العمل وضمان منافسة عادلة بين الجميع، فإن الشركة الكبيرة ربما تسيء استخدام حجمها ونفوذها في الإطاحة بمنافسيها الأصغر، عبر ممارسات مثل الاحتكار أو دفع الرشى لتحقيق مكاسب غير مشروعة، أو حتى الدخول في تحالفات احتكارية مع الشركات الأخرى للسيطرة على الأسعار.
وفي النهاية سيتضرر المستهلك لعدم خضوع الأسعار للعوامل الأساسية الحاكمة لها مثل العرض والطلب، وربما تضطر الشركات الصغيرة للانسحاب من السوق، وبطبيعة الحال يحد ذلك من تنوع المنتجات، وهو ضغط آخر على المستهلك ومصادرة لحرية اختياره، ناهيك عن الآثار المترتبة على الجانب الاقتصادي الأوسع، ولتفادي مثل هذه التداعيات يأتي دور الوصول الحر والممارسات العادلة.
أهمية الوصول والمنافسة العادلة
- يعني الوصول إلى السوق، قدرة الشركة أو الدولة على بيع السلع والخدمات في سوق ما، فهو يشمل كلا مفهومي التجارة، سواء كانت داخلية (وصول الشركات للأسواق المحلية للدولة) أو عالمية (الوصول إلى الأسواق في دول أخرى)، بحسب "إنفستوبيديا".
- أما المنافسة العادلة فيعرفها موقع "ماركت بزنس نيوز"، بأنها السوق الذي يعمل فيه جميع اللاعبين على أرض مستوية، وتتركز فيه التنافسية بينهم على السعر والجودة وخدمة العملاء وليس عمليات التسعير الجامحة التي تطمع فيها الشركات لحصد أكبر قدر ممكن من الأموال.
- بالتالي، فإن ضمان الوصول السلس والمنافسة الصحية بين الشركات، سيعني اجتهادا أكبر في تطوير المنتجات وإفراز سلع أكثر كفاءة لإرضاء المستهلك، وهو سبيل مشروع للمنافسة، ويضمن تسعير المنتجات عند أقل نطاق ممكن بغرض جذب العملاء، مع خضوع الأسعار في الوقت ذاته للعرض والطلب وغير ذلك من العوامل الأساسية وليس الاحتكار، وبالتالي خلق سوق عادل في الفرص المتاحة أمام المستهلكين والشركات على حد سواء.
- وفقًا للموقع التعليمي "إم بي إيه سكول"، فعندما تقوم المنافسة بين الشركات على عوامل مثل الجودة والسعر وخدمة العملاء وليس الممارسات التي يبغضها العامة والقانون، لا تضر الشركات بعضها البعض وتغيب فكرة الصراع الذي يستهدف فيه المنافسون إخراج أحدهم الآخر من السوق.
- هنا يأتي دور المشرعين والمنظمين وجهات الرقابة، الذين ينبغي عليهم ضمن المناخ العادل للجميع، بغض النظر عن الحجم؛ نعم قد يكون الحجم الكبير أكثر جاذبية في السوق وأكثر تأثيرًا في العملاء، لكن المنافسة العادلة تعني أيضًا إثراء النشاط الاقتصادي وضمان مصلحة المستهلك والحد من الممارسات الفاسدة وتشجيع الابتكار.
كيف نضمن المنافسة العادلة؟
- وفقًا لموقع "سيمبلي كابل" للمعلومات الاقتصادية والتكنولوجية، فإن هناك عددًا من العوامل يجب على الدولة ممثلة في جهاتها التنفيذية والتنظيمية، توفيرها لضمان منافسة عادلة بين الشركات تسمح للجميع بالوصول إلى السوق وتضمن حق المستهلك في الحصول على مجموعة متنوعة من السلع والخدمات وفق أسعار أكثر عدلًا.
- من بين عوامل المنافسة العادلة التي ساقها "سيمبلي كابل" في تقريره، لجوء الحكومات إلى العطاءات العلنية، وتشجيع الشركات على وضع الأسعار بشكل منفرد دون الدخول في تحالفات احتكارية لإبقاء الأسعار مرتفعة، وتشديد قبضة سلطات حماية المستهلك.
- يضاف إلى ذلك الأسواق الحرة التي تمكن أي شخص من بدء نشاطه التجاري دون تدخل من الحكومة في ترجيح كفة منافس على حسب آخر أو صناعة على غيرها، علاوة على الممارسات العادلة بين الشركات، مثل القبول بتقديم الخدمات للمنافسين.
- في حال رفضت شركة مهيمنة على خدمة ما وصول منافس لها في مجال آخر إلى هذه الخدمة، فإن ذلك يعد إضرارًا بالمنافسة الصحية، مثل رفض شركة اتصالات تمتلك أعمالًا في مجال البث التلفزيوني، تزويد محطة منافسة بخدمات الإنترنت.
- ولعل من أبرز العوامل المحفزة للمنافسة العادلة والصحية، هي حث الشركات على تقديم منتجات وخدمات مرنة دون ربطها بشروط أو منتجات أخرى، مثل مطالبة مستخدمي الجوال باستعمال الخدمات التي تقدمها الشركة المنتجة لأجهزتهم.
- كما يجب أن تسود في الأسواق الشروط العادلة للاتفاقيات بين الشركات من جانب والشركاء والعملاء من جانب آخر، فعلى سبيل المثال، تعتبر البنود التي تحظر على العميل شراء أي شيء (قطع غيار مثلًا) من شركة منافسة، أمرًا مضرًّا ومضادًا لمفهوم العدالة في الممارسات التجارية.
- من المخاطر الأكثر إثارة للخوف في الممارسات التجارية، هي الاحتكار، فنمو الشركات بشكل هائل يمكنها من السيطرة على فئة معينة من المنتجات، يحول دون وجود منافسة صحية، ومعه يغيب الحافز لتحسين الجودة وخفض الأسعار وتطوير الخدمة للعملاء.
- يمكن لهذه الشركات أن تحد من تلك المخاطر عبر تحويل أعمالها إلى كيانات مستقلة، فعلي سبيل المثال، يمكن لشركة اتصالات تهيمن على جزء كبير من البنية التحتية لتقنية المعلومات أن تنفصل إلى عدة كيانات محلية.
- في بعض الحالات قد تضطر الحكومات لإكبار الكيانات الاحتكارية على هذا الانقسام مثلما فعلت الولايات المتحدة مع شركة "ستاندرد أويل" التي هيمنت في فترة من الفترات على 90% من الأعمال النفطية للبلاد.
- بالتالي، فإن دور الدولة في تفريغ السوق من عناصر المقاومة للمنافسة الصحية، كما فعل "كوكس" بتفريغ الهواء من غرفة الاختبار، سيعني تحرك اللاعبين في السوق بحرية وفي اتجاه واحد دون حياد أو التفاف مع نفس القدرة على الوصول إلى العملاء، لكن في النهاية سيتوقف قبول العلامة التجارية وهيمنتها الحقيقية على قدرتها وتأثيرها الفعلي من حيث الابتكار والجودة والسعر المناسب.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}