في الثامن من أبريل/نيسان من عام 2000 سقط "فيكتور هوجو دازا" الطالب البالغ من العمر 17 عاماً على أرضية الساحة المركزية بمدينة كوتشابامبا – ثالث أكبر مدن بوليفيا – غارقاً في دمائه بعد أن أردته أرضا رصاصة أحد قناصة الجيش أثناء احتجاجه على بيع قطاع المياه بمدينته الفقيرة لشركة أجنبية رفعت الأسعار إلى مستويات لا تستطيع أسرته تحملها.
قبل ذلك العام، لم يكن هناك أي شخص تقريباً يعيش خارج بوليفيا قد سمع من قبل عن مدينة كوتشابامبا، ولكن قبل أن تنقضي الأشهر الأربعة الأولى من الألفية الثالثة استطاعت المدينة أن تحظى بشهرة عالمية واسعة، بعد أن قرر البوليفيون التوحد ضد واحدة من أقوى الشركات الأمريكية التي سيطرت على مواردهم المائية وطردها من بلادهم. لقد كان هذا فصلاً ملحمياً في تاريخ بوليفيا.
والحكاية ببساطة بدأت كالتالي:
في سبتمبر/أيلول من العام 1998 وافق صندوق النقد الدولي على منح بوليفيا قرضاً بقيمة 138 مليون دولار لمساعدتها في السيطرة على التضخم وتعزيز النمو الاقتصادي مقابل تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الهيكلية التي تضمنت خصخصة خطوط السكك الحديدية وصناعة الهاتف والخطوط الجوية بالإضافة إلى قطاعي المياه والنفط.
قبل ذلك التاريخ بنحو عام وتحديداً في عام 1997 رفض البنك الدولي شطب ديون بقيمة 600 مليون دولار كانت قد حصلت عليها بوليفيا قبل سنوات ما لم توافق البلاد على خصخصة قطاع المياه. حيث أكد مسؤولو البنك على أن تلك الخطوة ستساعد على تحفيز الاقتصاد الذي يرون أنه أرهق بسبب الدعم الحكومي لأسعار الخدمات العامة وفي القلب منها المياه.
باختصار، في مقابل المساعدات المالية اللازمة لإنقاذ اقتصاد متدهور طالبت المؤسستان الدوليتان الكبيرتان بوليفيا بخصخصة الجزء الأكبر من قطاعها العام. وبالفعل استجابت الحكومة البوليفية وباعت أغلب المناجم وحقول النفط والغاز والسكك الحديدية وشركات الكهرباء. إجمالاً تمت خصخصة أو بيع 60% من القطاع العام.
تحمل البوليفيون عمليات الخصخصة عملية تلو أخرى دون أن يئنّوا أو يشتكوا، فقط كانوا يعبرون عن استيائهم فيما بينهم. وفي نفس الوقت كانت خصخصة قطاعات مثل قطاع الطيران مثلاً لا تهم على الأغلب سوى العاملين في ذلك القطاع والذين لا يمتلكون القوة الكافية التي تمكنهم من إحداث فارق.
ثم جاءت عملية خصخصة قطاع المياه وأصبحت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. انتفض البوليفيون ضد المالك الجديد ومن ورائه الحكومة. ولكنها لم تكن ثورة على المياه فقط بل كانت ثورة على كل شيء. ثورة على الفساد المستشري وعلى الانحدار الاقتصادي.
رغم خطورة تلك الخطوة وحساسية ذلك القطاع بالتحديد، قامت الحكومة البوليفية في سبتمبر/أيلول من عام 1999 في غياب أي مشاورات شعبية أو مجتمعية ببيع قطاع المياه في مدينة كوتشابامبا في مزاد مثير للشبهات لم يشارك فيه سوى مزايد واحد إلى شركة تسمى " Aguas del Tunari" يمتلكها تحالف تقوده شركة الهندسة الأمريكية الشهيرة "بكتل".
تم التكتم على تلك الخطوة حينها ولم يتم الكشف عن تفاصيل عملية البيع سوى في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام. اتضح أن الحكومة البوليفية قامت بتأجير القطاع لمدة 40 عاماً تنتهي في عام 2039 مقابل 2.5 مليار دولار. وفي نفس الشهر مرر البرلمان البوليفي القانون رقم 2029 الذي قنن عملية الخصخصة.
ادفع تشرب
بعد عدة أسابيع من بيع القطاع، قام المالك الجديد برفع أسعار المياه بنسب اقتربت من 400% لتصل قيمة الفاتورة الشهرية للمياه على الأسر التي كان يبلغ دخلها في المتوسط حوالي 100 دولار إلى ما يقرب من 20 دولاراً. أي أنهم كانوا مطالبين بدفع خمس دخلهم على الأقل لكي تصل المياه إلى صنابيرهم.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. ففي ذلك الوقت كانت شبكات المياه الحكومية لا تصل سوى إلى نصف سكان المدينة، أما النصف الثاني فقد كان يحصل على احتياجاته من المياه من آبار وصهاريج مياه شعبية تم حفرها بمعرفة السكان الذين كانوا يمولونها بأنفسهم دون أي دعم حكومي.
لكن القانون سيئ السمعة نص على أن الشركة الجديدة هي الجهة الوحيدة التي يمكنها توزيع المياه داخل الأراضي المشمولة بعقد الخصخصة. وعلى هذا الأساس قام المالك الجديد بالسيطرة على الصهاريج وشبكات المياه المحلية التي استثمر السكان وقتهم وأموالهم في تشييدها دون أن يمنحهم أي تعويض.
قامت الشركة الجديدة بتركيب عدادات على الآبار التعاونية التي أنشأها السكان أصلاً وبدأت في بيع مياهها لهم. كما قامت أيضاً بحظر جمع مياه الأمطار في الصهاريج المخصصة لذلك. كل تلك الإجراءات كانت من أجل ضمان حصول الشركة على أرباح قدرها 15% على الأقل مقابل استثمارها.
بعد أن وصلتهم أول فاتورة مياه شهرية من قبل الشركة الجديدة في يناير/كانون الثاني من عام 2000، شهدت كوتشابامبا تمرداً واسعاً من قبل السكان ضد ما اعتبره الكثيرون محاولة لـ"تأجير المطر". تم إغلاق الطريق السريع الرئيسي الذي يربط شرق بوليفيا بغربها والمار من وسط المدينة بالمتاريس لمدة 4 أيام أضرب خلالها الموظفون عن العمل، وكان المطلب الرئيسي هو إلغاء عقد "بكتل".
سرعان ما انتشرت الاحتجاجات التي اندلعت شرارتها الأولى في كوتشابامبا إلى المدن والمجتمعات الريفية النائية، واصطدم الآلاف بقوات الجيش والشرطة. ولكن الحكومة البوليفية في المقابل كانت ترى أن إلغاء عقد الخصخصة غير وارد مالياً أو سياسياً، لأن العقد أولاً رابح جداً لها وثانياً هو أن قيامها بذلك من شأنه أن يضر بثقة المستثمرين الأجانب بالاقتصاد.
"بكتل" تخرج مرغمة
رفض السكان دفع الفواتير وفي المقابل هددت الشركة الجديدة بقطع المياه عنهم. وأعلن سكان المدينة أنهم سينظمون احتجاجاً آخر بالساحة المركزية في المدينة في الرابع من فبراير/شباط.
أعلنت الحكومة أنها لن تسمح بذلك الاحتجاج وفي صباح ذلك اليوم سيطر أكثر من ألف فرد من جنود الجيش والشرطة على الساحة المركزية. وتم جلب أغلب هذه القوات من خارج المدينة بسبب عدم رغبة القوات الخاصة بالمدينة في الدخول في مصادمات مع أقاربهم.
لم ترفض الحكومة فقط التراجع عن رفع أسعار المياه، بل قامت بحماية ورعاية الزيادات التي طبقتها الشركة الجديدة وتصدت للمحتجين الذين كانوا يستخدمون الحجارة والنبال باستخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع.
استمرت حالات الكر والفر بين المحتجين وقوات الأمن لفترة إلى أن أعلن السكان عن نيتهم تنفيذ احتجاجهم الثالث خلال أربعة أشهر والأكبر على الإطلاق في الرابع من أبريل/نيسان 2000، والذي قاموا خلاله بقطع كافة الطرق السريعة والدخول في إضراب مفتوح عن العمل.
بعد ذلك التاريخ بيومين، وافقت الحكومة أخيراً على الجلوس مع ممثلي المحتجين والاستماع لمطالبهم، غير أنها كانت خطوة تحاول أن تكسب بها وقتاً. فعقب الاجتماع مباشرة هاجمت قوات الشرطة المحتجين وقامت بالقبض على أكثر من 10 آلاف شخص.
ازداد الوضع اشتعالاً وفي نهاية المطاف وجدت الحكومة نفسها مجبرة على إلغاء عقد الخصخصة. وفي العاشر من أبريل/نيسان أعلنت الحكومة إلغاء العقد ومغادرة مسؤولي الشركة الأجنبية للبلاد.
احتفلت المدينة بهذا الحدث كما لو أن بوليفيا فازت بكأس العالم لكرة القدم، وخرج الناس إلى الشوارع والطرقات يهللون ويحتفلون بحصولهم على مبتغاهم أخيراً.
في أعقاب رحيل "بكتل" تم تسليم قطاع المياه إلى هيئة عامة تم تعيينها من قبل الحكومة المحلية لمدينة كوتشابامبا، والتي قامت بإعادة أسعار المياه إلى ما كانت عليه في السابق. والأهم من ذلك هو نجاح الشركة في شكلها الجديد في الحصول على تمويل دولي لتطوير الشبكة بعد أن بدأت المؤسسات الدولية تقبل حقيقة أن هذا القطاع بالتحديد سيظل في أيدي العامة.
في الخامس والعشرين من فبراير/شباط عام 2002، رفعت شركة الهندسة الأمريكية "بكتل" المالكة لنحو 55% من الشركة المطرودة دعوى قضائية ضد الحكومة البوليفية تطالبها فيها بتعويض قدره 25 مليون دولار عن الأضرار التي لحقت بها نتيجة لفسخ التعاقد المبرم بينهما.
أصرت الشركة الأمريكية على إقامة الدعوى رغم أن ذلك المبلغ لا يمثل الكثير بالنسبة لها في حين أنه يمثل ثروة بالنسبة لبوليفيا. يكفي أن تعرف أن إيرادات "بكتل" في عام 2000 وحده بلغت نحو 14 مليار دولار، في حين كانت ميزانية الحكومة البوليفية بالكامل في ذلك العام لم تتجاوز 2.7 مليار دولار.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}