نبض أرقام
12:07 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/24
2024/11/23

حينما يقود الاقتصاد..تجربة حققت نجاحا مدويا

2019/02/01 أرقام - خاص

في الثالث من مارس/آذار من عام 1991، أي قبل 20 شهراً فقط من موعد الانتخابات الرئاسية  الأمريكية، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "جالوب" أن الرئيس "جورج بوش" الأب يحظى بتأييد 89% من الأمريكيين. وكانت هذه هي أعلى نسبة تأييد يحظى بها رئيس أمريكي منذ عام 1945 حين حصل "هاري ترومان" على تأييد 91% من الأمريكيين.

 

 

قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام، وتحديداً في الثامن والعشرين من فبراير/شباط 1991، كان "بوش" قد أعلن وقف إطلاق النار في حرب الخليج وتحرير الكويت بعد نجاح عملية عاصفة الصحراء التي قادت فيها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة لهزيمة نظيرتها العراقية التي لم تصمد أمام الحرب البرية التي لم تزد مدتها على مائة ساعة.

 

وكان لذلك أصداء كبيرة في الداخل الأمريكي، حيث جعل الجمهوري "جورج بوش" غير قابل للمنافسة من الناحية السياسية، لدرجة أن الكثير من قيادات الحزب الديمقراطي التي كانت تفكر في الترشح للرئاسة تراجعت عن فكرة خوض سباق عام 1992 كي لا تحرق نفسها، وفضلت الانتظار حتى انتخابات عام 1996، وهو موعد انقضاء الدورة الثانية لـ"بوش" التي رجح الجميع فوزه بها.

 

لكن بالنسبة لبعض السياسيين ذوي النظرة الثاقبة، كان لدى "بوش" – الذي تقترب دورته الأولى من نهايتها – نقاط ضعف واضحة أهمها البطالة والتضخم. وكلاهما كان في ازدياد.

 

أحد قيادات الحزب الديمقراطي التي لم تخش مواجهة "بوش" في سباق 1992 كان حاكم ولاية أركنساس "بيل كلينتون" والذي أعيد انتخابه للمرة الخامسة لذات المنصب في عام 1990. ولم يكن "كلينتون" من نجوم المسرح السياسي الأمريكي في ذلك الوقت، والأكثر من ذلك هو أن معظم خطاباته كانت مثار سخرية واستهجان لكونها طويلة ومملة.

 

 

فاز "كلينتون" بالانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي وأصبح المرشح الرسمي للحزب لمواجهة الجمهوري "جورج بوش" الأب. وفي إطار سعي حملته للتواصل مع الجماهير قام خبير الحملات الانتخابية وعضو الحملة "جيمس كارفيل" بتعليق لافتة في مقر الحملة الانتخابية لـ"بيل كلينون" تضمنت العبارات الثلاث التالية:

 

1- التغيير في مواجهة المزيد من الشيء نفسه

 

2- الاقتصاد يا غبي

 

3- لا تنس الرعاية الصحية

 

وعلى الرغم من أن العبارة الثانية لم تكن سوى للاستهلاك المحلي إلا أنها خلافاً عن الشعارين الآخرين سرعان ما تحولت إلى شعار حملة كلينتون:"إنه الاقتصاد يا غبي". ببساطة، رأت حملة "كلينتون" أن الاقتصاد أكثر من أي شيء آخر هو الذي سيحدد خيارات الناخبين أمام صناديق الاقتراع في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 1992.

 

خطوة إلى الوراء .. كيف حاصر "بوش" نفسه؟

 

تولى "جورج بوش" منصبه في العشرين من يناير/كانون الثاني من عام 1989، ليصبح أول نائب رئيس يتم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة منذ عام 1837 وذلك بعد مغادرته لمنصبه مباشرة.

 

وكما نعرف، يمكن لمعظم الرؤساء أن يلوموا أسلافهم على جزء كبير من الأوضاع الصعبة التي يرثونها. ولكن لم يكن باستطاعة "بوش" اللعب على هذا الوتر، وذلك ببساطة لأنه طوال السنوات الثماني السابقة كان ثاني أهم رجل في الولايات المتحدة باعتباره نائباً للرئيس "رونالد ريجان"، وهو ما يعني أنه كانت له يد في جميع القرارات المهمة التي اتخذتها الإدارة السابقة.

 

شهدت سنوات "ريجان" و"بوش" تضخماً كبيراً في عجز الموازنة الفيدرالية، والذي ارتفع من 914 مليار دولار في عام 1980 إلى 2.7 تريليون دولار في عام 1989. وبوصفه جمهورياً أراد "بوش" حين تولى السلطة السيطرة على ذلك العجز من خلال خفض الإنفاق وليس زيادة الضرائب.

 

 

وخلال حملته الانتخابية الأولى أثناء سباق عام 1988 تعهد "بوش" للأمريكيين بعدم فرض ضرائب جديدة في عهده لدرجة أنه قال ذات مرة: "اقرؤوا شفتي (أي كونوا شاهدين) لن يتم فرض ضرائب جديدة". لكن بعد هذا التعهد الواضح الذي لا يرقى إليه الشك وجد "بوش" نفسه في مواجهة أغلبية ديمقراطية بالكونجرس تعتقد أن السبيل الوحيد للسيطرة على العجز هو رفع الضرائب.

 

كان "بوش" بين نارين. فمن ناحية بإمكانه استخدام حق الفيتو ضد أي ميزانية مقترحة من قبل الكونجرس الديمقراطي تتضمن زيادات ضريبية، ولكن هذا سيقود في النهاية إلى طريق مسدود ينتهي بإغلاق الحكومة. ومن ناحية أخرى، إذا وافق على هذه الميزانية ورفع الضرائب فإن رئاسته هي من ستدخل في طريق صعب.

 

نجح "بوش" في اجتياز السنة الأولى دون أن يخرق تعهده بشأن الضرائب. ولكن بحلول عام 1990 وجد الرئيس الـ41 للولايات المتحدة نفسه محاصراً في الزاوية. ففي الميزانية المقترحة من قبل إدارته للعام المالي 1991 والتي تم تقديمها للكونجرس في يناير/كانون الثاني 1990 كان "بوش" ملزماً بالوصول بعجز الموازنة إلى 64 مليار دولار، وذلك وفقاً لحدود العجز التي فرضها قانون جرام رودمان هولينجز.

 

"اقرؤوا شفتي، لقد كذبت"

 

في مايو/أيار من نفس العام، وفي تحول مفاجئ في موقفه استجاب "بوش" لدعوة زعيم الأغلبية الديمقراطية بمجلس الشيوخ للتفاوض بشأن الضرائب، لتكتب "نيويورك تايمز" في اليوم التالي: "بوش يطالب بزيادة الضرائب الآن". في حين كان تعليق صحيفة نيويورك بوست أكثر سخرية حيث كتبت "اقرؤوا شفتي، لقد كذبت".

 

سيطرت حالة من الغضب على الجمهوريين الذين رأوا أن تلك الخطوة ستؤثر سلباً على حظوظهم في انتخابات التجديد النصفي التي كانت على الأبواب. وبعد مفاوضات طويلة مرر الكونجرس الميزانية التي تشمل زيادات ضريبية بأغلبية 228 صوتاً مقابل 200 صوت في مجلس النواب وبأغلبية 54 صوتاً مقابل 45 صوتاً في مجلس الشيوخ.

 

بعد أن وقع الميزانية التي تحمل في طياتها خرقاً لأهم وعوده الانتخابية حاول "بوش" الظهور بمظهر الشجاع من خلال التصريح بأنه "اضطر إلى تقديم تنازلات". ولكن أعضاء حزبه لم يروها كذلك، بل وصفوها بالكارثة.

 

 

وبالفعل، في انتخابات التجديد النصفي التي عقدت بعد ذلك التاريخ بأيام، تلقى الجمهوريون هزيمة قاسية، حيث خسروا 10 مقاعد بمجلس الشيوخ و25 مقعداً بمجلس النواب لصالح الديمقراطيين. والأكثر طرافة، هو أنه من بين 62 مرشحاً جمهورياً شارك "بوش" في دعم حملاتهم على الأرض، لم يفز سوى 27 منهم، بينما خسر 35 مقاعدهم.

 

بحلول نوفمبر/1991، كانت الأمور أسوأ بالنسبة للرئيس "بوش". فعلى الرغم من نجاح عملية عاصفة الصحراء واقتراب الاتحاد السوفيتي من الانهيار إلا أن الوضع الداخلي كان قاتماً، وواجه "بوش" انتقادات من الجمهوريين أكثر من الديمقراطيين. وكان ذلك على خلفية ارتفاع نسبة البطالة من 5% فقط في مارس/آذار عام 1989 إلى 7% في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1991، قبل أن تصل إلى 7.8% بحلول يونيو/حزيران 1992.

 

الجمهوريون الذين أشادوا بأداء الرئيس على الساحة الدولية، شعروا بأن الشعب الأمريكي محبط من إدارة "بوش" لأنه لا يرى على الساحة الداخلية سوى اقتصاد راكد ومستقبل غامض.

 

في تحول دراماتيكي، انخفضت نسبة التأييد البالغة 89% التي حصل عليها "بوش" في بداية مارس/آذار 1991 بعد حرب الخليج مباشرة إلى 81% بحلول نهاية نفس الشهر، قبل أن تتراجع إلى 71% بحلول يونيو/تموز ثم إلى 51% بحلول نوفمبر/تشرين الثاني، لتصل إلى 41% في فبراير/شباط 1992 ثم إلى 31% بحلول يوليو/تموز. أي أن "بوش" خسر ما يقرب من 60% من شعبيته خلال 15 شهراً فقط.

 

لماذا خشي كبار الديمقراطيين من مواجهة "بوش"؟

 

أظهر استطلاع للرأي تم إجراؤه داخل اللجنة الوطنية بالحزب الديمقراطي في أواخر عام 1990 حول ممثل الحزب في انتخابات 1992، تصدر حاكم نيويورك "ماريو كيومو" بنسبة 36%، يليه ممثل نيوجيرسي بمجلس الشيوخ السيناتور "بيل برادلي" بنسبة 15%، يليهما السيناتور "توماس لوتن" مع نسبة قدرها 10%، ثم السيناتور "إل جور" مع 8%. ولم يكن هناك أي ذكر لـ"بيل كلينون".

 

لكن مع اقتراب الانتخابات التمهيدية، تغيرت الأوضاع تماماً في أوساط الحزب الديمقراطي لتتسابق الأسماء البارزة بالحزب على القفز من السفينة مفضلة عدم مواجهة "بوش" الذي أظهرته استطلاعات الرأي في ذلك الوقت متفوقاً بشكل كبير عن أقرب منافسيه. وعلى هذا الأساس أعلنت كل الأسماء السابقة التي شملها الاستطلاع بما فيهم المتصدر "ماريو كيومو" عدم خوضها السباق.

 

 

كانت قيادات الحزب الديمقراطي تنأى بنفسها عن خوض هذه الدورة تحديداً لخشيتها من تلقي هزيمة مهينة. ولكن في النهاية، يجب أن يكون للديمقراطيين مرشح في الانتخابات مهما كانت حظوظه. ومن هنا ظهر "بيل كلينتون" حاكم ولاية أركنساس الذي استطاع بسهولة حسم الانتخابات التمهيدية ليصبح مرشح الديمقراطيين الرسمي في مواجهة "بوش".

 

لماذا فاز "كلينتون"؟

 

في العشرين من يناير/كانون الثاني من عام 1993 وبينما كان يبلغ من العمر 46 عاماً و154 يوماً، أصبح "بيل كلينتون" ثالث أصغر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، وثامن رئيس أمريكي يتم انتخابه في الأربعين من عمره، وذلك بعد حصوله على 370 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي مقابل 168 لـ"بوش".

 

فوز "كلينتون" على "بوش" في انتخابات عام 1992 يرجع في الحقيقة إلى أكثر من سبب.

 

أولاً: كانت القضايا التي ركز عليها "كلينتون" في حملته الانتخابية هي ما تهم الناخبين فعلاً، وذلك على عكس القضايا التي ركز عليها "بوش". فقد أشار استطلاع عقب الانتخابات عن أهم صفة حدد الناخبون على أساسها المرشح الذي أعطوه أصواتهم قال 36% منهم إنه ذلك المرشح "القادر على إحداث التغيير المطلوب بشدة".

 

من بين هؤلاء الـ36% صوت 67% لصالح "كلينتون" مقابل 5% فقط لـ"بوش"، في حين صوتت النسبة الباقية والبالغة 28% لصالح المرشح المستقل "روس بيروت".

 

 

عندما سئل الناخبون أيضاً عن ماهية القضايا التي كانت حاسمة في تصويتهم، قال 42% منهم "الاقتصاد والوظائف". ومن بين هؤلاء صوت 52% لصالح "كلينتون" و25% لصالح "بوش" بينما اختار 24% منهم "روس بيروت".

 

كانت استطلاعات الرأي تظهر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكيين غير راضين عن الطريقة التي يدير بها "جورج بوش" الاقتصاد. وفي المقابل، كانت هناك بالفعل شريحة تؤمن بأن حالة الاقتصاد جيدة في ظل إدارة "بوش" غير أن المشكلة هي أن من كانوا يؤمنون بذلك كانوا لا يمثلون أكثر من خمس الناخبين.

 

ثانياً: بعيداً عن الاستطلاعات، كان الوضع على الأرض سيئًا بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، وذلك في ظل خسارة آلاف من المواطنين في العديد من الولايات مثل كاليفورنيا وأوهايو لوظائفهم، وشعورالكثيرين بالخوف من فقدان الولايات المتحدة لقاعدتها الصناعية وريادتها الاقتصادية لصالح ألمانيا واليابان.

 

في أول مناظرة تلفزيونية لهما قال "بوش": "أعلم أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يفوز بها (الحاكم كلينتون) هي من خلال جعل الجميع يعتقد أن الاقتصاد أسوأ مما هو عليه الآن". ولكن ما فشل "بوش" الذي حقق إنجازات كبيرة بالسياسة الخارجية في إدراكه حين ذلك هو أن الوضع الاقتصادي كان سيئاً بالفعل، وهو ما استغله "كلينتون" بمهارة عالية، ليثبت عملياً صحة شعاره: "إنه الاقتصاد يا غبي".

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.