نبض أرقام
11:34 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/10/02
2024/10/01

مداعبة اللاوعي.. كيف تستميلك العلامات التجارية لشراء منتجاتها دون قرار مدروس منك؟

2019/03/15 أرقام - خاص

أثناء مباراة لكرة القدم الأمريكية، وداخل المقصورة الرئيسية بالمدرجات، تحدى أحد المتفرجين ويدعى "نيكي" رجل الأعمال الصيني "ليوان"، بأنه قادر على تخمين رقم اللاعب الذي سيختاره بمجرد النظر إلى أرض الملعب، وراهنه على ذلك مقابل مليوني دولار.

 

ولتعزيز فرص قبول العرض، أخبر "نيكي" الشاب الصيني بأن صديقته "جيس" -التي لا تفقه شيئا في لعبة كرة القدم- هي من ستخمن رقم اللاعب الذي سيقع عليه الاختيار، وهنا ضحك "ليوان" حتى احمرت وجنتاه فرحًا، وبالطبع قبل العرض.

 

بعد محاولة للتهرب من الأمر، استجابت الفتاة لضغوط "نيكي"، وبعينين تكاد تنهمر منهما الدموع خوفًا، نظرت "جيس" عبر المنظار وأخذت تفحص اللاعبين في أرض الميدان، حتى استوقفها أحدهم؛ صديقهما "فرهاد".. ما الذي أتى به إلى هنا؟

 

أخذت الفتاة تدقق وتدقق النظر حتى تأكدت أنه هو، ورغم استغرابها الشديد، صرخت بصوت عال "نعم أعرف، رقم خمسة وخمسين" وكانت المفاجأة.. أصابت "جيس"، وما كان من "ليوان" إلا أن انفجر ضحكًا رغم خسارته، وأبدى إعجابه الشديد بهذا الرهان الخيالي.

 

 

ومع أن اختيار "جيس" لرقم صديقها "فرهاد" يبدو منطقيًا كونها تعلم أنه ليس بلاعب حقيقي، ومن المؤكد أنه سبب إصرار "نيكي" على تخمينها هي للرقم، لكن ما الذي دفع "ليوان" في البداية لاختيار هذا الشخص دون غيره؟

 

في البداية، كان انخراط "ليوان" في هذه المراهنة نابعًا من حبه الشديد للمقامرة، وخاصة أن الأمر بدا مصادفة شديدة، حيث حضر "نيكي" وصديقته "جيس" لمشاهدة المباراة، لكن خلال جلوسهما كشفت الفتاة له عن عدم ولعها بهذه الرياضة.

 

ولمعالجة هذا الموقف، بدأ صديقها لعبة الرهانات، حيث تراهنا على أي شيء يحدث أمامهما في المدرجات، فمثلًا راهن "نيكي" صديقته بأن المشجع الذي يحاول التقاط شطيرة الهوت دوج من البائع لن يتمكن من الإمساك بها، وهو ما حدث بالفعل.

 

كانت المنافسة بين الصديقين تبدو بسيطة ومن أجل المرح فقط، والأهم أنها بدت تلقائية وغير مخطط لها، لكن "نيكي" -الذي جسد شخصيته الممثل "ويل سميث" في فيلم "فوكاس" أو "التركيز"- كان قد حضر إلى المقصورة وفي نيته أمر آخر لم تعلمه الفتاة.

 

جلب "نيكي" بصحبته حقيبة مكدسة بمئات الآلاف من الدولارات التي جمعتها عصابته عبر أعمال احتيال وسرقة، لكنه كان قد وعد رفاقه بنقل الأموال مباشرة ولن يشارك في رهانات قد تفقده هذه النقود، وكانت "جيس" حريصة أيضًا على ذلك.

 

بينما يحظى "نيكي" و"جيس" بوقت مرح تتصاعد فيه منافستهما، كان بجوارهما "ليوان" الذي لم يستطع كبح رغبته بخوض المغامرة، فطلب من الصديقين السماح له بمشاركتهما الرهان.

 

 

في البداية خسر "نيكي" و"ليوان" لصالح "جيس"، لكن عندما انتقل الرهان إلى ما يجري في أرض الميدان، انسحبت الفتاة وتركت الأمر لأصحاب الخبرة الرياضية، وهنا بدأ الرهان يأخذ منحنى مختلفا.

 

بدلًا من دولار أو خمسة أو عشرة دولارات، ارتفع الرهان إلى آلاف الدولارات، وفي هذه اللحظة بدا الحظ مبتسمًا فقط للشاب القادم من أقصى شرق الأرض، فحاول "نيكي" الانسحاب بعد ذلك متذرعًا برغبته في تناول مشروب، لكن "ليوان" توسل إليه للاستمرار.

 

نزل "نيكي" على رغبة منافسه، ورفع الرهان إلى 50 ألف دولار، وراقب الجميع بأنفس محبوسة اللعبة القادمة في أرض الملعب، إلى أن ضرب اللاعب الكرة التي بدت متجهة نحو الهدف قبل أن يلتقطها أحد المدافعين ويخسر "نيكي" مرة أخرى.

 

وظل "نيكي" يخسر رهانته مع زيادة قيمتها لمائة ألف دولار ومن ثم إلى مليون دولار، لذا فعندما جاء موعد رهان المليوني دولار، كان يعتقد "ليوان" أنه يواجه رجلا سيطرت عليه هيستريا المقامرة والخوف من الخسارة، ولم يكن بمقدوره رفض الرهان الأخير.

 

لم يعلم "ليوان" -ولن يعلم أبدًا- كيف خسر هذا الرهان، لكنه يعتقد أن الحظ حالف "نيكي" وصديقته ليفوزا في رهان نسبة نجاحه 1 على 100، "جيس" أيضًا لم تكن تفهم ما يجري، وحاولت كثيرًا إثناء صديقها عن الاستمرار وهو ما حفز الصيني.

 

بعدما حصل الرفيقان على مليوني دولار -ضعفا الأموال التي حضرا بها تقريبًا- وأثناء مغادرتهما إلى المطار، شرح "نيكي" كل شيء لـ"جيس"، حيث اعتمد على تلقين رجل الأعمال الصيني ما ينبغي فعله قبل اللقاء بساعات، لكن كيف ذلك؟

 

 

عكف "نيكي" ورفاقه على دراسة شخصية "ليوان" لفترة، وكانوا على علم بأنه من أكبر محبي الرهانات ويطاردها في شتى أنحاء العالم وأنه لا يترك فرصة صغيرة كانت أو كبيرة.

 

وبالتالي اعتمدت العصابة على إثارة غريزته عبر بدء لعبة الرهانات بين "نيكي" و"جيس" بطريقة تبدو تلقائية، وإلى هنا تبدو الخطة منطقية، لكن كيف أقنعه باختيار هذا اللاعب دون أن يدري؟

 

يقول "نيكي": كنا نخبره بالأمر منذ غادر غرفته في الفندق، حيث وضعنا الرقم "55" أمامه دائمًا، على الثريا المعلقة أمام غرفته، وفي المصعد، وفي ساحة الاستقبال حيث احتشد مجموعة من الجماهير يرتدون قميص "فرهاد" بنفس الرقم.

 

وفي طريقه إلى الاستاد، كانت هناك وقفة احتجاجية ترفع لوحات مدون عليها الرقم 55، ليس ذلك فحسب؛ حيث أرسل "نيكي" شاحنات تجارية تحمل دعايا لمنتجات بها صور لـ"فرهاد"، ورغم أن "ليوان" بدا يتجاهل كل هذه الإشارات لكنها في الحقيقة كانت تغذي عقله اللاواعي.

 

 ولم يتوقف الأمر على ما يراه فقط وإنما ما يسمعه أيضًا، فداخل المقصورة اختار "نيكي" أغنية إنجليزية تتكرر فيها كلمة "وو وو" 124 مرة، وفي الصينية ينطق الرقم خمسة "وو"، وهي طريقة أخرى غذى بها عقل "ليوان" اللاواعي.

 

لذا عندما نظر إلى الملعب ورأى وجهًا مألوفًا له مع رقم مألوف أيضًا، كان ذلك اختياره الأول، فيما حصل مدرب الفريق على رشوة لإشراك "فرهاد"، لكن على أي حال لم يتعرض "ليوان" للاحتيال المباشر، وبدا راضيًا بالخسارة، فهو مقامر ويعلم القواعد.

 

 

إن كنت تعتقد عزيزي القارئ بأن هذا ليس سوى خيال سينمائي أو محض خرافة، فأنت بحاجة لمراجعة معتقداتك، فربما أنت نفسك تتعرض لمثل هذا التلقين عدة مرات يوميًا، فهل فكرت يومًا في فائدة الدعاية والإعلانات التي تنفق عليها العلامات التجارية أموالًا طائلة؟

 

هل الهدف هو الظهور والتأكيد على المكانة الكبيرة للشركة فقط والوجود في مختلف الوسائل الإعلامية؟ لا ليس الأمر كذلك فحسب، بل يصل إلى كونه وسيلة لتوجيه العقول وتغذيتها بمفاهيم غير مباشرة، ولا يقتصر على خيال المؤلف في هذه القصة الهوليوودية.

 

الاستهداف التجاري للعقل اللاواعي

 

تقول شركة "نيو ديزين جروب" للاستشارات واستراتيجيات العلامات التجارية في تقرير عبر موقعها الرسمي: إذا كنت تعتقد أن إعلانًا تم التخطيط له بعناية مع جودة تصوير عالية يضمن زيادة المبيعات فأنت بحاجة لإعادة التفكير، فالحملات الدعائية الفعالة هي التي تستهدف اللاوعي وتثير الأحاسيس والعواطف لدى المستهلك.

 

يضيف التقرير، أنه في أوائل القرن العشرين، أدرك علماء النفس أن الإعلانات التي تثير عاطفة المشاهد هي أكثر احتمالًا لزيادة المبيعات، وفي هذه الأيام يجب على الدعاية أن تثير استجابة عاطفية لدى المستهلك، وعليها أن تترك الانطباع الصحيح في عقله الباطن.

  

 

في عام 1957، صُدم العالم من كتاب "المقنِعون الأخفياء" لـ"فانس باكارد"، عندما تطرق إلى أن الرسائل الإعلانية تتسلل إلى العقل البشري خلسة دون مستوى الإدراك، وهو ما مكن علامات تجارية للآيس كريم والمياه الغازية من زيادة مبيعاتها.

 

يقول الأستاذ بجامعة باث البريطانية، والمتخصص في نظرية الإعلان، "روبرت جورج هيث": في الواقع، الغالبية العظمى من الإعلانات ينصب تأثيرها على العقل الباطن أو اللاوعي، كما أن المحتوى العاطفي للدعاية يمكنه كسر جميع القواعد التي نعتقد أنها تحكم قابليتنا للإعلانات.

 

يضيف "هيث" في مقال نشره عبر موقع "ذا كونفرزشن": على سبيل المثال نعتقد أن تجاهل الإعلانات يعني أنها بلا طائل أو تأثير، لكننا نتغافل عن حقيقة أن المحتوى الانفعالي أو العاطفي لا يتطلب أي انتباه على الإطلاق حتى تتم معالجته بفاعلية داخل أدمغتنا.

 

يعتقد المستهلكون أيضًا أنه إذا لم يكن بمقدورهم تذكر الرسالة التي حملها الإعلان فهم لا يتأثرون بها، لكن الحقيقة أن التأثير العاطفي يكمن في عمق اللاوعي مع أنه يكاد يكون مستحيل الاستدعاء من الذاكرة، وفيما يعتقدون أن اختياراتهم للعلامات التجارية تُبنى على تفكير عقلاني، فالمحرك الرئيسي لذلك هو الاستعداد العاطفي.

 

 

في عام 2001، أعادت شبكة الاتصالات المتعثرة "سيلنت" إطلاق علامتها التجارية تحت اسم "أو تو"، وأطلقت إعلانًا تلفزيونيًا، تظهر به مساحة واسعة من المياه الزرقاء تنطلق منها الفقاعات بهدوء، بينما يمرح الناس ويسبحون، ويظهر في الخلفية الطيور وكلب يجري وراء الكرة مع بعض الموسيقى الهادئة.

 

لم يتطرق الإعلان للحديث عن جودة الشبكة أو التغطية أو الرسوم أو أي شيء يخص الهواتف، لأن "أو تو" لم تكن أفضل لاعب في هذه الجوانب، لكن رغم فشل علامتها التجارية وعدم أي امتلاكها لميزة في الأداء، استطاعت أن تصبح أول علامة تجارية في مجالها داخل المملكة المتحدة خلال 4 سنوات فقط.

 

خلص تحليل إلى أن سبب نجاح "أو تو" يرجع إلى الحملة الدعائية التي شجعت المستخدمين على الشعور بأن هذه العلامة التجارية تعد مرادفًا للهدوء والرقي، وتناقضًا للفوضى والضوضاء التي تسيطر عادة على شبكات الاتصال الجوال، لكن كيف حدث ذلك؟

 

يجيب "هيث" قائلًا: الأمر بسيط، أدمغتنا لديها آلية دفاع بدائية تسمى بالنظام الحوفي، وهي دائمًا في حالة تأهب، حيث تحاول إدراك الإشارات المختلفة وتحديد معان لها، وهذا هو النظام الذي يوقظنا إذا بكى طفلنا الصغير، أو يجعلنا نقفز إلى الرصيف إذا رأينا سيارة تقترب.

 

يعمل النظام الحوفي بغض النظر عما إذا كان الشخص يعطي الأمور من حوله اهتماما أم لا، بل إنه يعمل بسرعة أكبر بكثير من التفكير، وهذا النظام هو الذي يتولى معالجة المحفزات العاطفية، وعندما يتلقى إشارات إعلان لعلامة تجارية ما، فإنه يتخذ قرارًا فوريًا بشأن قيمتها العاطفية ويخزن ذلك في العقل اللاواعي للعودة إليه في المستقبل.

 

 

إذا كانت القيمة العاطفية إيجابية (جميل، مريح، ناجح.. إلخ) يميل الشخص إلى اعتبار العلامة التجارية بنفس القدر من الإيجابية دون أن يدرك ذلك أو حتى يفحصه، وعندما يصل إلى مرحلة اختيار بشأن العلامة يجد نفسه يميل لصالحها، ويشعر أنه لا يوجد سبب قوي لعدم شرائه لها، لكنه قد يبحث عن المبررات لاحقًا إذا سأله أحدهم عن السبب.

 

في عام 2012، كتبت "التلغراف" في تقرير لها، إن أبحاث "هيث" في هذا المجال، ما هي إلا أدلة جديدة تؤكد أن رد الفعل اللاواعي تجاه الإعلانات (الاستجابة العاطفية غير الملحوظة) هي المحرك الأساسي للدعاية، مضيفة أنه أفضل من لخص كيفية توظيف علوم النفس والأعصاب والاقتصاد السلوكي في فن البيع والإقناع.

 

أطلقت "كادبوري" إعلانا في عام 2007 مدته 90 ثانية، تظهر فيه غوريلا جالسة في وضع الاسترخاء والهدوء قبل أن تبدأ الطرق على الطبول، وفقًا لـ"هيث" استطاع هذا الإعلان البسيط زيادة شعبية العلامة التجارية بنسبة 20% والمبيعات بنسبة 9%.

 

باختصار، العواطف والعقل اللاواعي هما مفتاح سلوك المستهلك، ويمكن للإعلان أن ينجح نجاحًا كبيرًا دون رسائل مباشرة مقنعة أو حتى يمكن تذكرها، لكن ما لا يسع المعلن تركه هو التواصل العاطفي للدعاية.. تُرى هل سبق لك أن اتخذت قرار الشراء أو رفض الشراء بناءً على ميولك العاطفية المتراكمة تجاه العلامات التجارية؟ فضلا لا أمرا كن واقعيا وقل الحقيقة لنفسك قبل أن تخبرنا بها.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.