بشكل يومي تقريبًا، يصر البعض على إتحافنا بمقارنات ساذجة وسخيفة بين مداخيل ومستوى معيشة المواطنين في الدول المختلفة، يبدون خلالها اندهاشهم مثلاً من تذمر المواطن في الدول النامية من وصول سعر تذكرة المترو إلى 7 لحاليح في حين أن سعر ذات السلعة في دولة مثل سويسرا يعادل ما يزيد على 25 لحلوحاً.
ورغم السذاجة والتدليس الواضحان اللذان يتسم بهما هذا الطرح إلا أنه رائج جداً بين العامة والكثير منهم يردده. ولكن ما سبق يثير السؤال المنطقي التالي: إذا لم تكن تلك هذه هي الطريقة الصحيحة للمقارنة بين الاقتصادات فماذا تكون؟
"الدولار الدولي"
المقياس الأكثر شيوعاً لحجم الاقتصادات الوطنية هو الناتج المحلي الإجمالي، وهو يعبر عن القيمة الإجمالية لجميع السلع والخدمات المنتجة داخل حدود الدولة في عام واحد. ولكن حقيقة أن كل دولة تقيس ناتجها المحلي الإجمالي بعملتها المحلية جعلت إمكانية المقارنة بين الاقتصادات المختلفة باستخدام هذا المقياس صعبة إلى حد كبير.
ولذلك يلجأ الكثيرون إلى أسعار الصرف لتحويل قيمة الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يعادلها بالدولار الأمريكي، غير أن هذه الطريقة توجد بها مشكلتان رئيسيتان تجعلاها غير مناسبة للإجابة على الأسئلة المتعلقة بحجم الاقتصاد ورفاهية المواطن.
المشكلة الأولى هي أن أسعار الصرف بطبيعتها متقلبة، ويمكن أن يؤدي استخدامها في إطار المقارنة بين الدول إلى حدوث تقلبات كبيرة في مقاييس النمو الإجمالية حتى لو كانت معدلات النمو في كل بلد على حدة مستقرة. أما المشكلة الثانية فهي أن أسعار الصرف لا تأخذ في اعتبارها السلع غير المتداولة، أي تلك التي يصعب نقلها خارج حدود الدولة.
البديل هو قياس الناتج المحلي الإجمالي بـ"الدولار الدولي" أو ما يعرف أيضاً باسم "دولار جيري خميس".
الدولار الدولي هو عملة افتراضية لها القوة الشرائية نفسها في الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة مثلما هو الدولار بالنسبة للولايات المتحدة. وهذا يلغي تقلبات أسعار الصرف ويزيل أثر الفروقات في أسعار السلع المتماثلة بين الدول.
يربط الدولار الدولي الناتج المحلي الإجمالي للدول بالقوة الشرائية، وهذا هو السبب في أن استخدامه يقودنا إلى ما يسمى بالناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب تعادل القوة الشرائية (PPP).
وفق أسعار الصرف العادية، نجد أن الحلاقة في نيويورك أغلى من الخرطوم. تكلفة ركوب التاكسي لمسافة قدرها 10 كيلومترات أعلى في باريس مقارنة مع تونس. تذكرة السينما في لندن أغلى بكثير منها في القاهرة.
ولكن الأجور في البلدان النامية والفقيرة أقل، وفي ظل أن قطاع الخدمات – الذي يندرج تحت بند السلع غير المتداولة – كثيف العمالة يصبح من المنطقي الأسعار أرخص في البلدان النامية.
أي تحليل يفشل في مراعاة الاختلافات المتعلقة بأسعار السلع غير المتداولة، سيصل إلى نتائج لا تعكس المستوى الحقيقي لرفاهية المواطنين في البلدان الفقيرة والنامية لأنه يتجاهل القوة الشرائية للمستهلكين. ولهذا يعتبر تعادل القوة الشرائية مقياساً أفضل لرفاهية المواطن.
أغلى أم أرخص من أمريكا؟
على سبيل المثال، إذا افترضنا أنه ثار جدالاً بين البعض في ماليزيا حول ما إذا كان سعر تذكرة مترو الأنفاق أرخص أم أغلى من نظيره في البلدان المتقدمة. وفي حين أن البعض يرى أن ثمن التذكرة أقل بكثير مقارنة مع تلك البلدان يشير الطرف الآخر إلى وجود خلل في الأساس الذي تقوم عليه هذه المقارنة أصلاً.
السؤال الآن: هل سعر تذكرة المترو في ماليزيا أرخص فعلًا من نظيره في الولايات المتحدة مثلاً؟ مع العلم أن متوسط سعر تذكرة المترو في الولايات المتحدة يقترب من 1.5 دولار، بينما يقترب متوسط ثمن التذكرة في ماليزيا الآن من 3 رينجيت.
أثناء محاولة الإجابة على هذا السؤال يقفز البعض مباشرة إلى أسعار الصرف العادية. وفي ظل أن سعر صرف الدولار الأمريكي يقترب من 4 رينجيت لكل دولار لحظة كتابة هذا التقرير، سيصل هؤلاء إلى نتيجة مفادها أن التذكرة التي تساوي 3 رينجيت في ماليزيا تبلغ تكلفتها 6 رينجيت في أمريكا، أي الضعف.
ولكن توجد مشكلة في الإجابة السابقة، وهي أنها تتجاهل بشكل واضح اختلاف القوة الشرائية للمستهلك الماليزي عن نظيره الأمريكي، وهو ما يقودنا إلى نتيجة مغلوطة لا تعكس الواقع. ما الحل إذن؟
\
لكي نأخذ القوة الشرائية في الاعتبار، يجب أن نستخدم ما يسمى بسعر الصرف المعدل وفق تعادل القوة الشرائية والذي يعبر عن قيمة الرينجيت الماليزي مقدرة بالدولار الدولي. بإمكانك أن تجد هذا المعدل على كثير من المواقع المختصة بالإحصاءات الاقتصادية.
وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، بلغ سعر صرف الرينجيت الماليزي المعدل وفق تعادل القوة الشرائية في عام 2018 حوالي 1.46 رينجيت للدولار. وهذا يعني ببساطة أن ما يستطيع الأمريكي أن يشتريه بواحد دولار في الولايات المتحدة يستطيع الماليزي أن يشتري مثله تماماً في بلده مقابل 1.46 رينجيت للدولار.
وفق هذا المعدل، إذا أردنا حساب القيمة الحقيقية لتذكرة المترو في الولايات المتحدة سنجدها تعادل 2.19 رينجيت (حاصل ضرب 1.5 دولار في سعر الصرف المعدل وفق تعادل القوة الشرائية البالغ 1.46)، أي أنها أرخص بنحو 0.8 رينجيت من نظيرتها في ماليزيا البالغة قيمتها 5 رينجيت. هكذا تتم المقارنة.
الحلاق .. السر في الإنتاجية
لكن ما الذي يفسر انخفاض أسعار الخدمات بشكل عام في البلدان النامية مقارنة مع نظيرتها المتقدمة؟ على سبيل المثال، نجد أن ثمن الحلاقة في مصر أرخص بكثير منها في الولايات المتحدة حتى بعد أخذ القوة الشرائية في الاعتبار. ما الذي يفسر أيضاً أن سعر الآيفون في الرياض لا يختلف تقريباً عن سعره في نيويورك أو دلهي.
هذا يعود بنا إلى مصطلح كررناه أكثر من مرة في التقرير، وربما لم يفهم البعض دلالته، وهو السلع المتداولة والسلع غير المتداولة.
السلع المتداولة هي تلك التي يمكن شحنها بسهولة إلى مكان، وهو ما ينطبق على جميع المنتجات المصنعة، والتي نلاحظ أن أسعارها متطابقة تقريباً في كل مكان إذا تمت إزالة تأثير الجمارك والضرائب. أما السلع غير المتداولة فهي تلك التي يصعب على من يعيش خارج حدود الدولة الوصول إليها كالحلاقة مثلاً.
في النرويج تبلغ تكلفة حلاقة الشعر حوالي 65 دولاراً، وهو ما يتجاوز بكثير تكلفة نفس الخدمة في بلد مثل المكسيك والتي لا تزيد فيها ربما عن 5 دولارات. ما سر هذا الفارق الكبير في التكلفة؟ ففي النرويج كما في المكسيك كما في أي بلد تقريباً حول العالم نجد أن طريقة وأدوات الحلاقة واحدة تقريباً، فمن أين هذا التفاوت الكبير في السعر؟
هذا في الحقيقة هو نتاج ما سماه كل من الاقتصادي المجري "بيلا بلاسا" ونظيره الأمريكي "بول سامويلسون" بتأثير "بلاسا - سامويلسون". فالسبب وراء هذا الفارق الكبير وفق نظريتهما يتعلق إلى حد كبير بمستوى الإنتاجية في البلدين محل المقارنة.
فالعمالة في النرويج أكثر إنتاجية من نظيرتها في المكسيك في معظم القطاعات الاقتصادية، وهو ما جعل الأولى أغنى وأعلى من حيث مستوى المعيشة.
ببساطة، لكي يحمل المجتمع أي مواطن نرويجي على العمل في مجال الحلاقة وليس في أي مجال آخر عالي الإنتاجية كالنفط مثلاً يجب أن يوفر له الحوافز المالية الكافية التي تدفعه للاستمرار بهذا المجال. هذا لا ينطبق على معظم البلدان النامية لأن المجالات المنافسة لمجال الحلاقة ضعيفة الإنتاجية وبالتبعية ضعيفة العائد، وفي ظل هكذا وضع يكثر العاملون بمجال الحلاقة وتتراجع ثمنها.
هنا تستفيد الحلاقة من حقيقة كونها سلعة غير متداولة أي يصعب على من يعيش خارج حدود الدولة الاستفادة منها، بمعنى أنه لو كان بإمكان المواطن النرويجي حلاقة شعره في بلدان مجاورة – تماماً كما بإمكانه شراء الآيفون من أي بلد -- لانخفضت التكلفة، ولكن هذا يظل خياراً غير واقعي.
هذا ما يفسر أيضاً أنه من النادر العثور على أحد أفراد الطبقة المتوسطة في بلد مثل النرويج يعمل في مجال الخدمة المنزلية، على عكس الحال في بلد مثل الفلبين التي يعمل جزء كبير من طبقتها المتوسطة بهذا المجال.
نفس الفكرة، ففي ضوء حقيقة أن النرويجي ابن الطبقة المتوسطة لديه الكثير من الخيارات في مختلف القطاعات، يتطلب إقناعه بالعمل بهذا المجال منحه أموالاً أكثر.
ما نحاول قوله باختصار هو إن حقيقة حصول المواطن في معظم البلدان النامية على الكثير من الخدمات (كالحلاقة والسواقة والخدمة المنزلية) مقابل أسعار زهيدة لا تعني أن قدرته الشرائية مرتفعة كما يروج البعض، وإنما تكشف تلك الدول من مشاكل بالإنتاجية في باقي قطاعاتها الاقتصادية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}