في خمسينيات القرن الماضي، كانت شركة "بيبسي" تمر بأزمة هوية كادت تطيح بها خارج السوق، وتفوقت عليها في هذه الأثناء منافستها اللدودة "كوكا كولا" من حيث المبيعات بنسبة 1 إلى 6، رغم أن الأولى كانت تبيع منتجاتها بنصف الثمن الذي تقدمه الثانية.
وبحلول عام 1963، عينت الشركة رئيسًا تنفيذيًا شابًا يدعى "آلان بوتاش"، وفي سبيله لمعالجة الأزمة وترسيخ أقدام "بيبسي" أمام منافس سبقها بشوط كبير ويقدم منتجًا متطابقًا من الناحية الكيميائية مع ما تقدمه شركته، قرر "بوتاش" تحويل استراتيجية التسويق من الحديث عن المنتج إلى الحديث عن المستهلك.
ووفقًا لهذا النهج تحولت الشركة إلى التركيز على صورة الأشخاص الذين يشترون منتجها أو الذين ينبغي عليهم فعل ذلك، وكانت هذه المرة الأولى في التاريخ الذي تروج فيه إحدى العلامات التجارية للمستهلك بدلًا من السلعة التي تقدمها، وكرست لفكرة الإعلانات الخالية من الرسائل الاستهلاكية المتلاعبة عبر حملتها التي حملت اسم "جيل بيبسي"، بحسب موقع "ذا ميديم".
كان جيل هذا العصر في الولايات المتحدة يتوق للفرار من النزعة الاستهلاكية، ومع تركيز الشركة في أعمال الدعاية على المستهلك بدلًا من المنتج، منحته فرصة للشعور بذلك بدلًا من إحساسه بأنها تقدم منتجاً أو عرضاً جديداً، وانتهت الحملة بتحقيق "بيبسي" مكاسب هائلة في المبيعات والترسيخ لاستراتيجية جديدة تتبعها الكثير من الشركات الآن وهي "لا تسوق لمنتج، وإنما لنسخة أفضل من المستهلك".
هذه الاستراتيجية فاجأت الأسواق مرة أخرى من خلال "آبل" التي نجح منتجها لتشغيل الموسيقى "آيبود" في إحداث ثورة مبيعات عند طرحه رغم أن أرفف متاجر الإلكترونيات كانت مكدسة بأجهزة "إم بي ثري" مختلفة الأشكال والأسعار، بيد أن الطريقة التي روج بها "ستيف جوبز" لجهازه الجديد هي ما أحدثت الفارق.
وفي الوقت الذي تسابقت فيه الشركات للإعلان عن المساحة الكبيرة لذاكرة أجهزة "إم بي ثري" مثل الدعاية التي كانت تقول آنذاك "مشغل الموسيقى بسعة واحد جيجابايت" وهي مساحة تخزينية كبيرة في ذلك الوقت، ورغم أن جهاز "آبل" لم يختلف كثيرًا إلا أن دعاياه اختلفت تمامًا، وكان الشعار الأساسي له "آيبود، ألف أغنية في جيبك".
وبذلك، فإن "آبل" مثلها مثل "بيبسي" ركزت على المستهلك ولم تركز بشكل مباشر على مزايا منتجها، هي في الحقيقة ركزت على التميز الذي سيصبح عليه عميلها عندما يحمل منتجها الذي لا شك أنه حمل أيضًا الكثير من الخصائص الجديدة، وباختصار شديد فإن الشركتين ركزتا على النفع العائد على العميل أكثر من المفاخرة والسرد الممل لمميزات منتجاتهما.
ووفقًا لتقرير نشره موقع "فاست كومباني"، يقول محللون إن الناس في هذه الحالات، لا يشترون مجرد منتجات، وإنما يشعرون بأنهم يبحثون عن نسخ أفضل من أنفسهم، فيما يقول رائد الأعمال ومؤسس شركة "باسكامب" لتطوير المواقع الإلكترونية "جاسون فرايد" في تغريدة له عبر "تويتر: إن هناك نهجين من التسويق، الأول تقول فيه الشركة للعملاء "إليكم ما يفعله منتجنا"، والثاني تقول فيه "إليكم ما يمكنكم فعله بمنتجنا"، ورغم التشابه الظاهر إلا أنهما مختلفان كليًا.
قد تكون "بيبسي" أول من استخدم نهج التسويق القائم على المستهلك واهتماماته والنفع العائد عليه وليس المنتج نفسه ومزاياه، وربما تكون "آبل" أحسن من استخدمه، لكن لاعبًا آخر في سوق الأعمال تمكن من تطوير هذا النهج بطريقة أكثر ابتكارًا وحتى أكثر إثارة للجدل والإعجاب.
لا تشتر منتجنا
- "باتاغونيا" لتصنيع الملابس ومعدات التسلق والتزحلق، هي شركة أمريكية خاصة، تأسست عام 1973 في كاليفورنيا، تشتهر بجهودها للحفاظ على البيئة، ويشمل ذلك الترويج لاستخدام الملابس المستعملة، والأكثر من ذلك أنها تطالب المستهلكين بالتفكير مرتين قبل شراء منتجاتها أو حتى ألا يشتروها من الأساس.
- يمكن القول إن الاستراتيجية التي تبنتها الشركة كانت مزيجًا من نهج "بيبسي" حيث أبدت اهتمامًا أكبر بالمستهلك (والنسخة الأفضل منه) مع لمسة خاصة من مسوقيها كانت صادمة إلى حد كبير، لكنها كانت أيضًا كافية لإحداث الصخب اللازم حول العلامة التجارية.
- خلال الأزمة المالية العالمية والسنوات القليلة التالية، كان المستهلكون أقل ميلًا للشراء، وأكثر اهتمامًا بالسلع الأطول عمرًا، حينها قررت الشركة طرح إعلانها الشهير خلال عيد الشكر في 2011، والذي كُتب عليه "لا تشتر هذه السترة".
- في إطار هذه الحملة الإعلانية، أشارت الشركة إلى التكلفة البيئية لكل سترة من ستراتها الصوف الأكثر مبيعًا، وطلبت من المستهلكين إعادة التفكير قبل شراء المنتج، أو حتى استخدام أحد منتجات "باتاغونيا" المستعملة بدلًا من ذلك.
- في أحد إعلانات "باتاغونيا" قالت الشركة إن إنتاج واحدة من أفضل السترات بيعًا لديها يتكلف 135 لترًا من الماء، وهو ما يكفي لتلبية الاحتياجات اليومية من مياه الشرب لـ45 شخصًا، وأشارت إلى أن عملية تصنيعها بدءًا من البوليستر المعاد تدويره الذي يشكل 60% منها، تتسبب في توليد 20 رطلًا (9 كيلوجرامات) من ثاني أكسيد الكربون.
- لكن على عكس الآثار المتوقعة للحملات المشابهة الهادفة للحد من التدخين، كانت تحذيرات "باتاغونيا" سببًا في نمو أعمالها، ووفقًا لموسوعة المعلومات المالية والاقتصادية "إنفستوبيديا"، فإن إيرادات الشركة ارتفعت بنسبة 30% إلى 543 مليون دولار خلال عام 2012، يليها نمو نسبته 6% خلال عام 2013، وقُدرت قيمة الشركة بنحو 750 مليون دولار عام 2017، قبل أن تقفز إلى مليار دولار العام الماضي.
الاهتمام بما يهم العميل
- يقول مدير أعمال الشركة في أوروبا "أليكس ويلر" خلال مقابلة مع موقع "ذا دروم": الرسالة الحقيقية لحملة "لا تشترِ هذه السترة"، لا تزال القضية الرئيسية لـ"باتاغونيا"، فإذا لم يكن المستهلك بحاجة إلى سترتنا لا ينبغي عليه شراؤها، الأمر لا يتعلق بتشجيع الناس على امتلاك الأشياء، ولكن يستهدف تغيير علاقتهم بهذه الأشياء.
- بعيدًا عن مشاركة المجتمع لمشاكله البيئية، كان المميز في استراتيجية "باتاغونيا" التسويقية هي أنها نجحت في زيادة المبيعات عبر مطالبة المستهلكين بألا يفعلوا، وأحيانًا ما يكون إشعار الشخص بقدرته على الرفض سببًا في قبوله للعرض المقدم له كما يقول باحثون.
- تقول "يافا تاوسيغ إدواردز" الطبيبة النفسية في نيويورك وماساتشوستس لموقع "إنك" إن تقديم الطلب لشخص مع تذكيره بقدرته على قول "لا" يزيد بشكل كبير احتمالية الإجابة الإيجابية، حيث يجعله ذلك يشعر بأنه ليس رهينة وضع معين أو أنه مضطر لفعل شيء.
- لكن شهرة "باتاغونيا" لم تأت من السمعة التي اكتسبتها بفضل استراتيجيتها فحسب، فقد أظهرت الشركة اهتمامًا ليس فقط بالعملاء وقضاياهم وإنما أيضًا بالعاملين لديها، وسلطت الضوء على ظروف العمل الصعبة التي يخضع لها العمال حول العالم في فيلم وثائقي لها.
- اعتراف "باتاغونيا" بالظروف القاسية التي يتعرض لها العمال لم يكن نهاية الرسالة، فقد دخلت في شراكة مع منظمة التجارة العادلة الأمريكية "فاير تريد يو إس إيه"، والتي تمنح الكيانات التجارية شهادة ثقة تؤكد التزامها بأجور مناسبة وتوفير ظروف ملائمة للعمل.
- يقول موقع "ريفيرال كاندي" المهتم باستراتيجيات التسويق، إن "باتاغونيا" عملت أيضًا على مساعدة وتشجيع المستهلكين على إصلاح وإعادة تهيئة ملابسهم وارتدائها مرة أخرى، علاوة على إطلاقها حملات إعلانية تحث المستهلكين على أن يصبحوا نشطاء في مجالات عامة مثل البيئة وخدمة المجتمع.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}