تصطحب طفلك البالغ من العمر 7 سنوات، تدخل إلى السوبر ماركت، وفي لحظة يترك الطفل يدك ويجري مسرعاً في زوايا المكان قبل أن تجده يصيح بينما يشير بيده إلى أحد الأرفف قائلاً "أبي أريد هذا". تنزل على رغبته وتجلب له ما يريد، ولكنه سرعان ما يلمح شيئاً آخر فيترك ما أعطيته إياه، ويلح قائلاً "لا أريد هذا بل أريد ذلك". ثم يكرر فعلته هذه مرة تلو أخرى ولا يتوقف إلا وأنت تحمله غصباً إلى خارج السوبر ماركت.
تضيق ذرعاً بتردد طفلك وعدم ثباته على رأي، ولكنه في النهاية طفل وما فعله للتو يناسب عمره. ولكن ماذا عنك؟ ألا تتصرف بنفس الطريقة في سوق الأسهم؟ ربما تفاجئك معرفة أن الأغلبية الكاسحة منا نحن المستثمرين تتصرف بنفس الطريقة في السوق، حيث تجدهم يمشون في أرجائه لا يعرفون لماذا اشتروا ما اشتروه أو لماذا باعوا ما باعوه.
وراء من نمشي؟
كمتداولين في سوق الأسهم، نحن نحلم دائماً بالتفوق على السوق، ونحاول طوال الوقت أن نصبح مستثمرين ممتازين، ونبذل قدراً كبيراً من وقتنا وأموالنا في هذا المسعى. ورغم كل الجهود التي نبذلها، يفشل معظمنا في محاولاته لأن يصبح أكثر من مجرد مستثمر عادي. ولكننا نواصل المحاولة على أمل أن نصبح يوماً من الأيام مثل الأساطير الاستثمارية التي نسمع عنها كـ"وارن بافيت" و"بيتر لينش".
وربما نطالع بشغف المقالات والكتب التي كتبت حول المستثمرين الناجحين والمقولات المقتبسة عنهم على أمل العثور على سر قدرتهم على اختيار أفضل الأسهم، حتى نتمكن من تطبيقه ونصبح أغنياء بسرعة. ولكن أثناء بحثنا عن ضالتنا نجد أنفسنا مشوشين بسبب الرسائل المتناقضة التي نستقبلها طوال الوقت من هذا وذاك، مما يعوق قدرتنا على اتخاذ أي قرار.
فعلى أحد نواصي السوق، نجد من يقف ويصيح ناصحاً إيانا بشراء أسهم الشركات ذات التدفقات النقدية الصلبة والأصول السائلة لأن هذا هو سر نجاح "وارن بافيت". وبينما هو على هذه الحال يقاطعه صوت آخر يأتي من زاوية أخرى من السوق يحذرنا فيه صاحبه من هذا النهج وأنه لم يعد يناسب أسواق اليوم وينصحنا أن نراهن على الشركات التي تمتلك آفاق نمو متينة.
نترك هذا وذاك ورسائلهما المتناقضة التي لم تزدنا إلا حيرة، ونتمشى في السوق لنتفاجأ بثالث يمسك برسوم بيانية يحاول أن يوضح لنا من خلالها قدرته على الدخول والخروج من السوق في الوقت المناسب تماماً. وهؤلاء جميعاً لديهم القدرة على بيع ادعاءاتهم المتناقضة لنا ولغيرنا، وأكثرنا يشتري منهم.
هذه النصائح أو الاستراتيجيات بحد ذاتها لا توجد بها مشكلة، وإنما المشكلة هي أن كل من يتبعها بشكل أعمى يقوم حرفياً بوضع العربة أمام الحصان. فشرط نجاح أي استراتيجية هو امتلاك المستثمر فلسفة استثمارية تتسق في جوهرها ليس فقط مع الأسهم التي يختار الاستثمار فيها وإنما مع خصائصه وسماته الشخصية أيضاً.
بعبارة أخرى، إن سر النجاح في سوق الأسهم لا يكمن في معرفة أسباب نجاح "وارن بافيت" و"بيتر لينش" وغيرهما من كبار المستثمرين كما يعتقد البعض، بقدر ما يكمن في معرفتك وفهمك لنفسك بشكل أفضل.
ما المقصود بفلسفة الاستثمار؟ .. وما أهميتها؟
في كتابه الصادر في العشرين من يناير عام 2003 تحت عنوان "فلسفات الاستثمار" يعرف "أسواث داموداران" الأستاذ بكلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك فلسفة الاستثمار على أنها "طريقة تفكير متماسكة حول الأسواق وكيفية عملها، وأنواع الأخطاء التي تعتقد كمستثمر أن الآخرين يقعون فيها".
"والفلسفة أعم وأشمل من الاستراتيجية، فالأخيرة ما هي إلا إحدى طرق تطبيق الأولى. أي أن فلسفة الاستثمار هي مجموعة من المعتقدات الأساسية التي يمكنك الرجوع إليها من أجل توليد استراتيجيات جديدة حين تفشل القديمة."
بعبارة أخرى، فلسفة الاستثمار هي مجموعة من المبادئ التي ستتصرف وفقها عند اتخاذ أي قرار يتعلق بمحفظتك الاستثمارية على المستويين الكلي والجزئي. وهذا يعني أن فلسفتك الاستثمارية يجب أن تكون هي النقطة التي ينطلق منها كل قرار متعلق بالمحفظة.
إن الكم الهائل من البيانات والمعلومات والآراء التي نطالعها ونستمع إليها كل يوم في السوق، يجعلنا عرضة للوقوع في فخ تقليد أي من الأساليب أو الاستراتيجيات الرائجة أو خليط منها وتنفيذها والشراء أو البيع على أساسها فوراً، ولكنها سرعان ما تتسبب في خسارتنا للأموال.
نفس الاستراتيجية التي جنى من ورائها صديقك آلاف الريالات قد تتسبب في خسارتك أنت لآلاف مثلها لأنك تفتقر إلى الفلسفة الشاملة التي تمكنك من التعرف على ما يناسبك وما لا يناسبك من هذه الأساليب والاستراتيجيات. ففي غياب تلك الفلسفة ستستمر في مطاردة وتجريب كافة الاستراتيجيات الاستثمارية واحدة تلو أخرى، دون تحقيق أي نجاح يذكر، وأثناء ذلك ستخسر الكثير من المال.
يجب أن تفهم أن ما يناسب حسن أو مسعود أو خالد قد لا يناسبك بالضرورة، فلكل منكم أهدافه الخاصة وخصائصه الشخصية، وربما لستم قادرين على التعرض لنفس المستوى من المخاطرة. فهندستك لفلسفة استثمارية ستجعلك أكثر قدرة ليس على رفض الاستراتيجيات التي لا تناسبك فحسب بل أيضاً على تكييف وتعديل الاستراتيجيات وفقاً لاحتياجاتك.
افتقارك إلى الدفة أو الفلسفة الاستثمارية أو مجموعة أساسية من المعتقدات حول كيفية عمل السوق سيجعلك فريسة سهلة للدجالين والمحتالين عديمي الضمير حيث يزعم كل منهم أنه وجد الاستراتيجية السحرية التي تضمن لك التفوق على السوق وتحقيق عوائد مذهلة.
إن المشكلة التي يواجهها معظم المستثمرين في السوق اليوم هي أنهم لا يعرفون ما الذي يجب التركيز عليه وسط هذا الكم الهائل من الخيارات والاستراتيجيات الاستثمارية التي يواجهونها يومياً في السوق. لكن وحده من يمتلك فلسفة استثمارية هو القادر على الرؤية خلال هذا الضباب والتركيز على ما يقع ضمن سيطرته كمستثمر فقط، وهذا لأنه يفهم جيداً نفسه واحتياجاته.
يجب أن تحدد وتكتشف فلسفتك الاستثمارية الخاصة قبل استراتيجيتك، لأنك إذا استطعت تعريف فلسفتك الخاصة فستتمكن من التعرف على الاستراتيجيات التي يجب عليك تجنبها، ليس لأنها سيئة وإنما لأنها لا تناسب أهدافك ولا تناسب شخصيتك كمستثمر.
فأفضل طريقة لمعرفة ما يناسبك هي من خلال معرفة ما لا يناسبك. هذه الفكرة لخصها بعبقرية "تشارلي مونجر" رفيق درب "وارن بافيت" حين قال: "أخبرني أين سألقى حتفي كي لا أذهب إلى هناك".
كيف أكون فلسفتي الخاصة؟
السؤال الذي ربما يشغل بال البعض الآن هو: إذا كان كل مستثمر بحاجة إلى فلسفة استثمارية خاصة به، فكيف يكون مثل هذه الفلسفة؟ وفي الحقيقة، يمكننا تلخيص تلك العملية في ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى هي فهم أساسيات المخاطر وتقييم الشركات. فقبل الشروع في رحلة البحث عن فلسفة الاستثمار يجب أن تتأكد من فهمك لمجموعة من الأساسيات المالية. وعلى الأقل يجب أن تفهم كيفية قياس المخاطر وكيفية مقارنتها بالعوائد المتوقعة، وكيفية تقييم أصل ما سواء كان سهماً أو نشاطاً تجارياً، بالإضافة إلى تكاليف التداول.
أما الخطوة الثانية فهي تطوير وجهة نظر حول كيفية عمل الأسواق. فكل فلسفة استثمارية تستند في جوهرها على وجهة نظر المستثمر حول السلوك البشري (واللاعقلانية). وفي حين أن خبراتنا تحدد في كثير من الأحيان شكل نظرتنا وحكمنا على سلوك الآخرين، يجب قبل أن نصدر أحكامنا النهائية في هذا الشأن أن ننظر إلى الأدلة التي توفرها لنا الأسواق حول كيفية تصرف المستثمرين في الماضي.
تتمثل الخطوة الثالثة في البحث عن فلسفة تناسب شخصك. فبمجرد فهمك لأساسيات الاستثمار وتكوينك لوجهة نظر حول الضعف والسلوك البشري ومراجعة الأدلة المتراكمة لنواتج فلسفات الاستثمار المختلفة، فأنت على استعداد الآن للقيام باختيارك.
هناك إمكانية للنجاح مع كل الفلسفات الاستثمارية تقريباً، ولكن بعضها يناسبك وبعضها الآخر لا يناسبك. وبشكل أساسي يعتمد اختيارك للفلسفة الاستثمارية المناسبة على شيئين أساسيين:
1: مدى قبولك للمخاطرة. فكما نعرف هناك استراتيجيات هي بطبيعتها أكثر خطورة من غيرها، كالاستثمار في الشركات الناشئة والأسهم الخاصة، وهي استثمارات خطرة بالمقارنة مع الشركات المدرجة أسهمها في البورصة والتي لديها قيم مستقرة. فعلى الرغم من أن عائدات الاستراتيجية الأولى من المرجح أن تكون أعلى إلا أنه يجب على المستثمرين النافرين من المخاطرة تجنبها والتركيز على الثانية.
قيامك باختيار فلسفة (أو استراتيجية) تتطلب منك تحمل مستوى من المخاطرة أعلى من ذلك الذي تشعر معه بالراحة، من الممكن أن يشكل خطراً على محفظتك وعلى صحتك.
2: الأفق الزمني الخاص بك. بعض الفلسفات الاستثمارية تقوم على آفاق زمنية طويلة في حين أن البعض الآخر يتطلب آفاقاً زمنية قصيرة. والأفق الزمني تحدده بشكل أساسي صفاتك الشخصية – بعضنا أكثر صبراً من الآخر – واحتياجاتك النقدية، لأنه كلما زادت حاجتك إلى السيولة كان أفقك الزمني أقصر.
أكثر من مجرد شعارات فارغة
إن فلسفة الاستثمار المناسبة لك هي تلك التي تعكس نقاط القوة والضعف لديك. وهذا هو السبب في أن فلسفة الاستثمار الخاصة ببعض المستثمرين لا تناسب غيرهم. بعبارة أخرى، لا توجد هناك فلسفة استثمارية واحدة يمكن وصفها بأنها "الأفضل" لجميع المستثمرين، لأننا لدينا نقاط قوة وضعف مختلفة. عليك تبني فلسفة تناسب شخصيتك.
دون فلسفة استثمارية سيكون من المستحيل تقريباً تنفيذ أي استراتيجية بشكل صحيح، وذلك لأن الفلسفة هي ما يربط كل شيء معاً عندما لا تمضي الأمور على النحو الذي تصورته. ولكن يجب أن تدرك أن الفلسفة الاستثمارية لا يجب أن تكون مجرد كلمات فارغة ترددها، بل معتقدات قادرة على توجيه سلوكك ومساعدتك على تجنب الأخطاء في أحلك الأوقات.
وربما أفضل ما نختم به هذا التقرير هو ما قاله المستثمر والكاتب والمحلل المالي المعتمد "ريك فيري" في هذا الشأن : "الفلسفة عالمية والاستراتيجية شخصية والانضباط مطلوب. الفلسفة هي بمثابة الغراء الذي يمسك بكل شيء. الفلسفة أولاً والاستراتيجية ثانياً والانضباط ثالثاً. هذه هي مفاتيح النجاح في عالم الاستثمار".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}