لطالما كانت الطاقة هي المحرك الأهم للاقتصاد، حيث تطور الأخير تاريخيّاً مع اكتشاف أشكال مختلفة من الطاقة، بدأت باعتماد الإنسان على عضلاته، ثم اعتمد على طاقة الحيوان المستأنس ثم البخار والطاقة الميكانيكية وأخيرًا الطاقة الكهربائية والوقود الأحفوري والنووي.
وبناء على ذلك شكّلت الطاقة حجر زاوية في تقدم أي اقتصاد، ولا شك أن أيًا من أشكال حياتنا المعاصرة يستحيل تخيله دون كهرباء أو دون آلات تستهلك الوقود الأحفوري، بما يجعل أي وفر في الطاقة بمثابة دعم مباشر للاقتصاد، بل وللبيئة أيضًا.
التبريد والتدفئة
فهل يمكنك تخيل أن أجهزة التكييف والتدفئة تستهلك 20-52% من الطاقة في المكاتب الإدارية في الدول المتقدمة، وترتفع تلك النسبة إلى 50-60% في بعض الدول التي تشهد ارتفاعًا أو انخفاضًا كبيرًا في درجات الحرارة (أعلى من 48 أو أقل من 15 درجة مئوية)، وفقًا لدراسة لجامعة "ويسكنسون".
وفي كثير من الأحيان يكون تصميم المباني في حد ذاته الوسيلة المثلى، ففي الدول التي يغلب عليها الطقس الحار على سبيل المثال فإن استخدام الأسقف العالية في البناء (أكثر من 4 أمتار) وأسلوب العمارة الإسلامية، باعتماد أشكال مشابهة للقباب قد يقلص الحاجة إلى أجهزة التبريد بنسب تصل إلى 50%.
وتشير دراسة لشركة "سيمنز" الألمانية، إلى أن أجهزة التدفئة التقليدية تعمل بكفاءة لا تتعدى 80% فحسب في مجال توفير الطاقة، وأنه يمكن تقليص 20% من الطاقة المستخدمة حال اللجوء إلى تكنولوجيا أكثر حداثة وذلك دون تحمل الشركات لتكاليف باهظة نظير التعديلات.
كما تكشف دراسة لجامعة "كاليفورنيا" إلى أن ضبط أجهزة التبريد على درجة حرارة 25 مئوية بدلا من 21 يقلل نسبة الطاقة المستهلكة بنسبة 18% وقد تزيد النسبة في حالة درجات الحرارة العالية، أو حتى الاعتياد على ضبط المكيف على درجات أقل حرارة من 21.
على المستوى الصناعي
أما على المستوى الصناعي فكثير من معدات المصانع مصممة لكي تعمل 230-400 فولت في الكثير من المصانع، ويختلف هذا الأمر من دولة لأخرى ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال أغلب المصانع تعمل على 240-420 فولت، بينما العمل على 220-225 فولت من شأنه توفير 5-15% من الكهرباء المستهلكة لتشغيل المعدات.
وتشير "سيمنز" إلى أن النسبة التي يتم توفيرها قد تقل عن ذلك، ولكن -وفي كل الحالات- يبقى استخدام مثل هذا الفولت في العمليات الصناعية موفرًا للطاقة، وعلى الرغم من ذلك لا تلتزم الشركات المصنعة للماكينات به في كل الأحوال ليبقى إهدار الطاقة مستمرًا.
وعلى سبيل المثال فإن الآلات التي تعمل بضغط الهواء من أكثر الآلات التي تستهلك كهرباء (10% من الطاقة الصناعية في أستراليا على سبيل المثال)، وتستهلك نسبة تصل إلى 50% في بعض المصانع العاملة في مجال التعبئة والتغليف، لذا فإن تجنب وجود أي تسريب في الهواء من شأنه توفير استهلاك الطاقة بشكل ملحوظ.
وتقدر هيئة الصناعة الأمريكية أن الثقوب في أجهزة ضغط الهواء والتسريبات تتسبب في زيادة فاتورة الكهرباء على المصانع الأمريكية بحوالي 3.2 مليار دولار سنويًا، وذلك بناء على حساب تكلفة الثقب الواحد بـ500 دولار، وإذا زاد عدد الثقوب في نفس الآلة تزداد تكلفة كل ثقب لتأثيرها التصاعدي على ضعف كفاءة الآلات.
نظم المراقبة
وتؤشر دراسة لـ"هارفارد" إلى أن إقرار نظم مراقبة استهلاك الطاقة يسهم في وفر في الاستهلاك يصل حتى 30%، فالكثير من المصانع مثلًا لا تقوم بإيقاف سيور عمل بعض الماكينات إلا في حالة الصيانة بسبب عملها بشكل دائما باستثناء ساعات محدودة يوميًا أو حتى أسبوعيًا.
ويمكن في هذه الحالة خفض سرعة تلك السيور بما يحقق الأمرين من سرعة إعادة التشغيل، وتخفيض التكلفة، بينما يكفي فصل الماكينات نهائيًا عن الكهرباء في حالة عدم تشغيلها (بما في ذلك أجهزة الحاسب) لتقليص فاتورة المصانع الأمريكية من الكهرباء بنسبة 2% في المتوسط.
وتقوم نظم مراقبة استهلاك الطاقة من خلال وجود عدادات استهلاك عند كل قسم من أقسام المصنع، لكي يتابع المسؤولون عنه التغيرات في استهلاك الطاقة، بحيث تصبح الأقسام التي يتزايد استهلاكها للطاقة معروفة بدقة وبالتالي يسهل التعامل معها، وعلاج أسباب الخلل أولًا بأول.
وتكشف الدراسة أن استخدام المواتير متعددة القوى (كمثل تلك التي تحتوي على سرعات متغيرة ومتعددة) يسهم في تقليص النفقات على الطاقة بنسب متفاوتة، ولكن على سبيل المثال فإن محركات السيور الآلية متعددة السرعات قد تحقق وفرًا 10-40% في حالة غالبية المصانع التي تعتمد عليها.
كما أن مراقبة أعمار المحركات (سواء في المصانع أو السيارات أو غيرها) تسهم كثيرًا في تقليل استهلاك الوقود، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن تدهور حالة محرك السيارة قد يرفع نسب استهلاك الوقود بنسب تصل إلى 20% خلال 7-10 أعوام من شرائها وفقًا لمعدلات الإهلاك التقليدية.
لا توعية
بل إن "نظافة" المعدات المستخدمة وليس فقط صيانتها تسهم في تقليص فاتورة الطاقة، ولا توجد نسب محددة في هذا الأمر بطبيعة الحال لاختلافها وفقًا لطبيعة المعدة ودرجة نظافتها، إلا أن تقليل الاحتكاك بين الأسطح المختلفة يعني بالضرورة استهلاكًا أقل للطاقة.
وعلى الرغم من الحملات الكثيرة التي تنظمها حكومات متعددة بشأن توفير الطاقة إلا أنه يصعب عليهم في كثير من الأحيان الوصول لصورة واضحة حول أهمية ذلك، ويكفي الإشارة إلى أن استبدال مصباح تقليدي واحد من خلال آخر موفر في كل بيوت الولايات المتحدة يعادل أثر سحب 1.3 مليون سيارة من شوارعها، وفقًا لدراسة لجمعية حماية المستهلك الأمريكية.
وتقدر الدراسة أن استخدام ما يعرف بـ"نظم الإضاءة الذكية" يوفر أكثر من 40% من الطاقة المستهلكة في الإضاءة في الشركات والمصانع، من خلال وجود حساسات تعمل على إضاءة الأماكن من عدمها وفقًا لوجود أناس فيها، بل إن استخدام مصابيح الإضاءة "فلورسنت" قد يخفض تكلفة الإضاءة بنسبة 90% في الكثير من المنازل الأمريكية (وفي غيرها).
والملاحظ أن غالبية الدول أقرت قوانين أو لوائح تحتم وضع ملصقات بحجم استهلاك الطاقة، أو حتى بوضع تقييم له (درجة من 1-5 في كفاءة استهلاك الطاقة) وخاصة على أجهزة التبريد والتدفئة، ولكن وفقًا لاستطلاع لـ"بيو" فإن 83% من المستهلكين لا يلتفتون إلى تلك الملصقات، ولا يعيرونها انتباها، بل لا يدرك النصف أهميتها على الإطلاق.
مبادرات شركات
لذا يحتاج الأمر إلى توعية للمستهلك، سواء من خلال الحكومات أو أجهزة حماية المستهلك أو حتى منظمات الحفاظ على البيئة بعائد ذلك الاقتصادي على الأسرة على المدى المتوسط والطويل، فضلًا عن تأثيرات خفض استهلاك الطاقة الإيجابي على البيئة.
وبعيدًا عن الطاقة الكهربائية، فهناك العديد من المبادرات اللافتة من الشركات في مجال تخفيض استهلاك الطاقة الأحفورية ومنها ما أقرته "زيروكس" في الولايات المتحدة من تقليص نفقات النقل لديها (بالأساس مع خفض الوقود المستهلك) بنسبة 10% بسبب اختيار العربة الأنسب لنقل السلع بما يخفض التكلفة.
كما قامت الشركة بإدخال نظام يمنع سائقي الشركة من تجاوز سرعة 60 ميلا في الساعة، وعلى الرغم من أن هذا نظام قائم في بعض الشركات السياحية، إلا أن هدفه الأبرز يكون الحفاظ على الأرواح، بينما في "زيروكس" الهدف اقتصادي بامتياز.
وفي الوقت نفسه تمكنت شركة "يو.بي.إس" لخدمات الشحن من توفير حوالي 28 مليون ميل قيادة لشاحناتها وعرباتها من خلال إقرار نظام متقدم من أنظمة تحديد المواقع ورصد الطرق المزدحمة وتلك الخالية، بما وفر على الشركة شراء قرابة 3 ملايين لتر من الوقود أو أكثر.
كل هذه الأشكال من توفير الطاقة، سواء في الإضاءة أو التبريد والتدفئة أو النقل وباقي أشكال النشاط الاقتصادي، لا تحقق وفورات تزيد أرباح الشركات فحسب، بل تسهم ايضًا في الحفاظ على البيئة من ظاهرة الاحتباس الحراري، بما يجعلها "صفقة رابحة لجميع الأطراف".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}