بينما تعمل كيانات الدولة كخلية واحدة يجمعها هدف اقتصادي واحد، تحظى السلطة النقدية (البنوك المركزية) بحصانة خاصة واستقلالية تجعلها بمنأى عن باقي السلطات ومتخذي القرار، ولعل ذلك ما يضمن فرصة التحرك بحرية لإحداث توازن بين السياسات النقدية والمالية، حال أخلت الأخيرة بالنمط اللازم للحفاظ على استقرار الاقتصاد.
وقد تتسبب الممارسات الحكومية والسياسات المالية التوسعية في الضغط على مؤشرات التضخم، وحينها ينبغي على المصارف المركزية سرعة التحرك لاحتواء التغيرات التي تطرأ في الأسعار عن طريق أدواتها المختلفة مثل تعديل سعر الفائدة.
وأثبتت التجربة التاريخية فشلًا ذريعًا في تولي الحكومات مسؤوليات السياسة النقدية، وعلى سبيل المثال، كانت تجارب الأرجنتين والمجر وزيمبابوي وألمانيا، خير دليل على هذا الإخفاق، والذي قاد البلدان إلى تضخم مفرط وأزمات اقتصادية عميقة.
ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى رغبة الحكومات الدائمة في إنفاق المزيد من الأموال، بما يفوق حدود ميزانياتها الخاصة، أو حتى محاولات بعض السياسيين كسب المزيد من السطوة والنفوذ على حساب القوة الشرائية للعملة المحلية، لذا فمن الضروري ضمان استقلال البنوك المركزية، للتأكد من اتخاذها قرارات نقدية محايدة وخالية من الضغوط السياسية المباشرة.
نظرة تاريخية
- كانت إدارة السياسة النقدية (وتحديدًا ضبط أسعار الفائدة) إحدى المهام الأصيلة للحكومات في الماضي، لكن خلال فترة السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، شهدت الاقتصادات الصناعية الكبرى فترات متواصلة من التضخم المرتفع.
- أثار هذا التضخم تساؤلات حول ميل البنوك المركزية للتوسع الاقتصادي ووضعها أهدافًا غير واقعية، وأشار الاقتصاديون مرارًا إلى وقوف الضغوط السياسية وراء هذه المساعي غير المنطقية.
- على أي حال، تزايدت منذ ذلك الحين الدعوات المنادية باستقلال البنوك المركزية والمطالبة بتوليها مهام السياسة النقدية كاملة، باعتبار أن ابتعادها عن سلطان السياسة سيضمن تركيزها على ضبط التضخم، مع العلم أن مسؤولي هذه المصارف يتم تعيينهم من قبل القادة السياسيين الذين يحددون لهم أهدافًا عامة دون تدخل مباشر في عملهم، مثل مطالبتهم بخفض التضخم.
- لذا تظل العلاقة بين البنوك المركزية والحكومات معقدة للغاية، تُبنى (على سبيل المثال لا الحصر) على أمور مثل دور السلطة التنفيذية في تعيين ورفض تعيين أعضاء مجلس إدارة البنك، وقوتها التصويتية داخل المجلس، تحديد مستوى الإقراض المنوط بالبنك تقديمه للحكومة، وما إذا كانت أهداف السياسة محددة بوضوح.
- هناك نموذجان رئيسيان لاستقلال السياسة النقدية، هما استقلال الهدف واستقلال التشغيل، وفي الأول يمتلك البنك المركزي القدرة على تحديد أهداف السياسة مثل استقرار الأسعار، ولعل أحد أبرز الأمثلة هنا على مستوى العالم؛ هو البنك المركزي الأوروبي، الذي تم الإقرار باستقلاليته .
- على الطرف الآخر، فإن بنك إنجلترا (المصرف المركزي البريطاني) يتم تحديد أهدافه النقدية من قبل وزير الخزانة، ويخضع للمساءلة من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية، ويمكن للحكومة ممارسة الضغط عليه عبر التعيينات التي تختارها لمجلسه.
أهمية الاستقلال
- قد يكون الدافع وراء سوء إدارة الحكومات للسياسة المالية هو الاعتبارات قصيرة المدى للمسؤولين المنتخبين ورغبتهم في إحداث توسع اقتصادي كبير خلال فترة زمنية قصيرة بغض النظر عن العواقب التضخمية على المدى الأطول، بحسب ورقة بحثية لأستاذ الاقتصاد الأمريكي "كارل والش" الذي خدم في مناصب عدة بالاحتياطي الفيدرالي.
- وفقًا لموقع "إيكونوميكس هيلب" فإن استقلال البنوك المركزية يمكن تبريره بالقرارات النقدية السيئة للحكومات والتي عادة ما تُبنى على رؤية قاصرة، أو إغراءات وتعهدات انتخابية، مثل ازدهار الدورات الاقتصادية، مع غض الطرف عن الكساد المحتمل.
- بما أن للحكومات سجلا حافلا من السماح للتضخم بالانفلات، فعندئذ تبدأ توقعات ارتفاع التضخم بالتسرب، وهو أمر يجعل التضخم في حد ذاته أكثر احتمالًا، وفي المقابل تحظى المصارف المركزية المستقلة بمصداقية وثقة أكبر؛ وهذه الثقة تجعل الناس يتوقعون تضخمًا أقل.
- للحفاظ على التضخم من الجموح، يجدر إسناد مهام السياسة النقدية دائمًا لمؤسسات مستقلة، فعلى سبيل المثال، عندما تفاقم معدل تضخم الأسعار في الولايات المتحدة خلال السبعينيات، لم يكبحه سوى رفع أسعار الفائدة الذي تجاهل فقدان الوظائف في سوق العمل لاحقًا، بحسب "الإيكونوميست".
- في عام 1993، خلصت ورقة بحثية أعدها أستاذ السياسة والاقتصاد الإيطالي "ألبرتو أليسينا" ووزير الخزانة الأمريكي الأسبق "لورانس سامرز" إلى أن البنوك المركزية المستقلة أفضل أداءً في السيطرة على التضخم من نظيرتها الخاضعة لسيطرة القادة السياسيين، مشيرةً إلى أن هذه الكيانات يمكنها التخطيط وفقًا لمنظور طويل الأجل واتخاذ قرارات غير شائعة لتحقيق أهدافها.
المسألة ما زالت جدلية
- بحسب تقرير لـ"فايننشال تايمز" فشلت محاولات البنوك المركزية لمنع عدم الاستقرار المالي رغم نجاحها في كثير من الأحيان في ضبط التضخم، مشيرًا إلى أنها تجاوزت الاختصاصات المالية للحكومات عبر سياسات مثل التيسير الكمي، وهو ما جعل استقلالها مسألة جدلية.
- كما أشرنا سابقًا، العلاقة بين السلطة التنفيذية والبنوك المركزية معقدة ومتداخلة، فعلى سبيل المثال، رغم الانتقادات التي يوجهها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إلى الاحتياطي الفيدرالي لرفعه الفائدة، فهذا لا ينفي حقيقة أنه هو من عيّن غالبية الأعضاء الحاليين في مجلسه، بما فيهم الرئيس "جيروم باول".
- كتبت الباحثة بجامعة "جورج واشنطن" "سارة بيندر"، وخبير الاستثمار المصرفي "مارك سبيندل"، في كتابهما الأخير "أسطورة الاستقلال"، أن الاحتياطي الفيدرالي والكونغرس الأمريكي مرتبطان بشكل وثيق.
- كثيرًا ما تؤثر القوانين على سلطات البنك المركزي، وفي أمريكا عقب الأزمة المالية، حد الكونغرس من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على إنقاذ البنوك المتعثرة، وباتت المصارف المركزية أكثر تركيزًا على المسائل السياسية التي تتجاوز اختصاصاتها المحدودة.
- مثلًا في عهد "بيل كلينتون" طلب رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق "آلان جرينسبان" معالجة عجز الموازنة، ودعم الخفض الضريبي في عهد "جورج دبليو بوش"، فيما جعل البنك المركزي الأوروبي عمليات الدعم الطارئ للحكومات مقترنة بتبنيها للسياسات التي يفضلها هو.
- بحسب "بلومبرج"، يقول الاقتصادي الحائز على جائزة "نوبل"، "جوزيف ستيغليتز" إن الاقتصادات التي تملك بنوكًا مركزية مستقلة لا تبلي بالضرورة جيدًا خلال الأزمات المالية، ومع استخدام المصارف المركزية أدوات جديدة مثل شراء السندات لدعم الاقتصادات الوطنية، فإنها تمارس أدوارا كانت تقع على عاتق المشرعين والإنفاق الحكومي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}