في أبريل من عام 2013 طرحت شركة "آبل" سندات بقيمة 17 مليار دولار. وتسابق المستثمرون حرفياً على شراء ديون الشركة الأمريكية في أكبر صفقة غير مصرفية في التاريخ.
قدرة "آبل" على تحمل هذا الكم من الديون لم تكن في الحقيقة مفاجأة لأي أحد، لأن الكل يعرف أن شركة التكنولوجيا الأمريكية التي تعتبر إحدى أكبر الشركات قيمة سوقية في العالم لن تواجه بالتأكيد أي مشكلة في سداد ما اقترضته.
وقبل ذلك التاريخ بعامين، وتحديداً في عام 2011 باعت شركة "جوجل" سندات بقيمة 3 مليارات دولار. وفي عمليتي الطرح هاتين كان معدل الفائدة الذي يتعين على الشركتين دفعه أعلى قليلاً من المعدلات التي تدفعها الحكومة الأمريكية عند اقتراضها.
الحكومة الأمريكية.. لماذا تدفع أقل؟
لماذا يمكن للحكومة الأمريكية الاقتراض بأسعار فائدة قليلة؟ ببساطة، إن ديون الحكومة الأمريكية يدعمها أغنى اقتصاد في العالم، ومهما كانت المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة فإن اقتصادها الخاص لا يزال يمتلك العقول والشركات الأكثر ديناميكية من الناحية الاقتصادية في العالم.
إن الإنتاجية الهائلة للأمريكيين تجعل من السهل على وزارة الخزانة الأمريكية اقتراض الأموال بأسعار فائدة منخفضة للغاية مما يمكن الحكومة الفيدرالية من تغطية عجز الميزانية بسهولة.
الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر في العالم، ويبلغ حجم الحصيلة الضريبية لوزارة الخزانة حوالي 3 تريليونات دولار سنوياً، وهو ما يجعل من السهل على الولايات المتحدة إدارة عجزها المالي الكبير. وأمريكا ليست هي الدولة الوحيدة القادرة على سد عجزها المالي من خلال الاقتراض بسهولة نسبية، فهناك اليابان وإنجلترا والصين وفرنسا.
ليس من المفاجئ أن الدول التي تمتلئ خزاناتها بعائداتها الضريبية يمكنها إدارة عجز مالي كبير، وذلك لأن البلدان الغنية ليس لديها مشكلة في الاقتراض من أسواق الدين بفضل ثقة المستثمرين في قوة اقتصاداتها وبالتبعية قدرتها على السداد.
في المقابل، نجد أن البلدان الفقيرة محرومة إلى حد كبير من الاستفادة من أسواق الديون. فدول مثل نيكاراجوا وهندوراس ليس لديها أي ديون سنوية تقريباً، ليس لأنها لا ترغب في ذلك، ولكن أن أغلب المستثمرين يفضلون عدم الرهان على الحكومات ذات الاقتصادات الضعيفة.
الفارق بين الشركة والحكومة
إذا عدنا إلى قصة "آبل" و"جوجل" التي ذكرناها في صدر التقرير، فربما يتساءل البعض عن سبب دفع هاتين الشركتين للمقرضين معدل فائدة أعلى من المعدل الذي تدفعه الحكومة الأمريكية لمقرضيها. والإجابة ببساطة هي أن "آبل" أو "جوجل" أو أي شركة أخرى معرضة في أي وقت للمرور بعام مالي سيئ أو ربما عدة أعوام.
لكن الحكومة الأمريكية على الجانب الآخر غير معرضة لهذا الخطر. فعلى الرغم من أن إيراداتها ترتفع وتهبط وفقاً لحالة الاقتصاد إلا أنها وفيرة دائماً لدرجة أن المستثمرين ينظرون إلى سندات الخزانة الأمريكية باعتبارها استثمارات بلا أي مخاطر. فالمستثمرون يراهنون على قدرة القطاع الخاص في البلاد على توليد الثروة اللازمة لسداد الأموال المقترضة.
الاقتراض الحكومي في ظاهره يمثل مشكلة، حيث إن الحكومات تتنافس مع رجال الأعمال والشركات للحصول على رأس مال محدود، وهذا نظرياً صحيح. ولكن ما يفشل البعض في إدراكه هو أن الدولار هو الدولار والريال هو الريال، بمعنى أن الفكرة ليست في ما إذا كانت الحكومة تسد عجزها من خلال الاقتراض أو عبر فرض المزيد من الضرائب، وإنما في جودة إنفاقها.
الولايات المتحدة على سبيل المثال، ارتفعت ديونها من 908 مليارات دولار في عام 1980، ليتجاوز حالياً حاجز 22 تريليون دولار. أي أن المبلغ المستحق على دافعي الضرائب الأمريكيين قد ارتفع أكثر من 20 ضعفاً خلال فترة 40 عاماً تقريبا، ورغم ذلك فإن اقتصادها أبعد ما يكون عن شبح الأزمات المدمرة.
الدين المنخفض.. هل يعتبر دليلاً على صحة الاقتصاد؟
هناك مفارقة مثيرة جداً للاهتمام وهي أنه خلال نفس الفترة التي شهد فيها الدين الأمريكي هذا الارتفاع الصاروخي لم ترتفع تكاليف الاقتراض بل على العكس انخفضت. فالعائد على سندات الخزانة الأمريكية ذات أجل الاستحقاق البالغ 10 سنوات تراجع من 10.8% في عام 1980 إلى 2.47% في مايو 2019.
هذا الانخفاض الكبير الذي شهدته عوائد سندات الخزانة يعكس ثقة المستثمرين في السوق الأمريكي باعتباره الأكبر والأكثر عمقاً في العالم، وهو ما يجعلهم غير قلقين من عدم قدرة وزارة الخزانة الأمريكية على سداد 22 تريليون دولار.
ما لا يدركه كثيرون هو أن الدين الحكومي بشكل عام يعكس توقيت الضرائب. بمعنى أن ارتفاع حجم الإنفاق الحكومي يعني مزيداً من الاقتراض وبالتالي تصبح الديون أكبر. هذه الديون ستسددها الحكومة من ضرائب ستحصلها في المستقبل. وهذا بالضبط ما قصده "ميلتون فريدمان" حين قال "الإنفاق الحكومي هو فرض ضرائب".
ارتفاع أو انخفاض الدين الحكومي بحد ذاته لا يمكن الاستدلال منه على قوة الاقتصاد أو حجم المخاطر التي يواجهها. فعلى سبيل المثال، بلغ حجم الدين السيادي لفنزويلا 23% من قيمة ناتجها المحلي الإجمالي خلال عام 2017، ومع ذلك فإن اقتصادها يمر بحالة من الاضطراب الشديد منذ سنوات.
في المقابل هناك دول بإمكانها إدارة إنفاقها بشكل فعال لتحسين الرفاهية حتى لو كانت ديونها مرتفعة. فعلى سبيل المثال، بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي في الولايات المتحدة حوالي 120% في عام 1945، وذلك مباشرة بعد أن حشدت الحكومة الاقتصاد للفوز بالحرب العالمية الثانية.
أي أن الفكرة باختصار هي أن المشكلة لا تتعلق بعجز الميزانية الحكومية بقدر ما تتعلق بجودة الإنفاق الحكومي وأوجه صرف الحكومة لمواردها المالية سواء من الضرائب أو من الديون.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}