في أواخر القرن التاسع عشر انضمت اليابان إلى نادي الدول الصناعية، ولكنها سرعان ما خرجت منه مع تعرض اقتصادها وبنيتها التحتية للتدمير في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لم تحتج اليابان سوى 10 سنوات لتستأنف نشاطها الإنتاجي وتصبح أحد أهم مصدري الإلكترونيات الاستهلاكية للولايات المتحدة.
كيف حدث ذلك؟ وكيف تمكنت اليابان من الإفاقة من كابوس الحرب وآثار قنابل أمريكا النووية وكيف أعادت ترتيب أوراقها بهذه السرعة ليتحول هدفها مع مرور الوقت من مجرد التعافي إلى مزاحمة القوى الغربية في أسواقها الخاصة؟ هذا هو موضوع هذا التقرير.
بين أيدي الحلفاء
كما كان الحال مع ألمانيا النازية في أوروبا، أصبح الأمر الشاغل لقوى الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية هو مصير اليابان وما يجب فعله حيالها وحيال مستعمراتها والمناطق التي غزتها خلال الحرب.
وكانت أول خطوة اتخذها الحلفاء هي تجريد اليابان من السلاح وإعادة ملايين اليابانيين الذين يعيشون في الخارج إلى بلادهم. وبحلول عام 1948 تمت إعادة هؤلاء اليابانيين إلى وطنهم، ولكنهم إما لم يجدوا منازل يسكونون فيها أو وجدوا مكاناً يأويهم ولكنهم ظلوا فيه فقراء عاطلين عن العمل.
لم يكتف الحلفاء بنزع السلاح فقط، وإنما حاولوا إضفاء الطابع الديمقراطي الغربي على اليابان. وكان الدافع وراء هذه الجهود الرامية إلى تحقيق الديمقراطية هو رغبة القوى الغربية في تفكيك المؤسسات الإمبريالية وإنهاء سيطرة النخبة الحاكمة بغرض ضمان عدم خضوع اليابان للشيوعية.
في ذلك الوقت أدركت الولايات المتحدة وحلفاؤها أنهم إذا أردوا إبعاد اليابان عن المدار الشيوعي، فإنهم في حاجة لمساعدة الدولة الآسيوية على تطوير وبناء هيكل اقتصادي قوي. وكانت واشنطن مصممة على أن يتواءم النموذج الاقتصادي الياباني مع الرأسمالية الغربية.
ومع ذلك، بحلول عام 1947 – وفي ظل سيطرة الولايات المتحدة على جميع جوانب المجتمع الياباني – كان من الواضح أن الاقتصاد الياباني على شفا الانهيار. وبالنسبة للولايات المتحدة كان هذا الأمر كابوساً لأن انهيار الاقتصاد الياباني يقوض خطتها الأمنية ويعرضها للخطر.
العودة للتصنيع
نظراً لأن اليابان كانت الدولة الصناعية الوحيدة في شرق آسيا قبل الحرب، فضل قادة الحلفاء مساعدة اليابان على العودة لمسار التصنيع، لتصبح طوكيو مفتاحاً للنجاح الاقتصادي بالمنطقة وحصناً ضد توسع المد الشيوعي.
شجع المحتلون الغربيون النقابات العمالية في اليابان على المشاركة في المفاوضات مع الحكومة، وفي نفس الوقت دشنوا سياسات إصلاح الأراضي والتي سهلت على المستأجرين الصغار شراء المزارع.
تم توجيه اليابان لموازنة ميزانيتها وتعليق القروض المعطاة من الدولة للقطاع الصناعي وإلغاء الإعانات الحكومية للشركات، وهي كلها إجراءات وسياسات كادت أن تتسبب في خنق الاقتصاد الياباني لولا الحرب الكورية التي اندلعت في عام 1950.
فمن أجل تعزيز الجهود الأمريكية في كوريا وبغرض دعم الاقتصاد الياباني، بدأ الجيش الأمريكي في تقديم طلبيات توريد كبيرة للشركات اليابانية. وفي الفترة ما بين عامي 1951 و1953 بلغت قيمة المشتريات العسكرية الأمريكية من اليابان حوالي ملياري دولار مثلت في ذلك الوقت حوالي 60% من الصادرات اليابانية.
مع نهاية الخمسينيات، كانت اليابان على موعد مع واحدة من أطول فترات النمو الاقتصادي التي شهدها العالم على الإطلاق. ولكن كيف تمكنت اليابان من العودة إلى التصنيع بسرعة كبيرة وتحقيق هذا النمو الاقتصادي الهائل؟
نظرة على التاريخ
تحتاج الإجابة على السؤال السابق النظر في المراحل التاريخية التي مرت بها عملية التنمية الصناعية في العالم خلال فترة الـ150 عاماً السابقة لنهاية الحرب العالمية الثانية.
في التجربة الأوروبية، بدأت المرحلة الأولى من التصنيع عبر إدخال الآلات إلى صناعة النسيج، في حين تميزت المرحلة الثانية بالتركيز على الصناعات الثقيلة، وكان هذا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما ساد الفحم والحديد، وهو ما جعله العصر الذهبي للصلب والسكك الحديدية والبواخر.
أما المرحلة الثالثة، والتي يعود تاريخها للنصف الأول من القرن العشرين، فهي تلك الفترة التي قاد خلالها محرك الاحتراق الداخلي وصناعة البتروكيماويات التوسع الاقتصادي في أوروبا وأمريكا الشمالية.
بدأت المرحلة الأخيرة عندما أصبحت الإلكترونيات الاستهلاكية مثل أجهزة التلفزيون والترانزستورات وأشباه الموصلات هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي.
ما فعلته اليابان في الخمسينيات والستينيات هو أنها ركزت في البداية على صناعات التكنولوجيا البسيطة بغرض مساعدتها على توليد النمو اللازم للانتقال لصناعات أكثر تقدماً. وهذا بالمناسبة هو ما فعلته أيضاً النمور الآسيوية الأربعة (كوريا وتايوان وهونج كونج وسنغافورة) في السبعينيات.
من التكنولوجيا البسيطة إلى المتقدمة
كان لدى اليابان بالفعل صناعة نسيج قوية قبل الحرب العالمية الثانية، وأعادت طوكيو إحياء هذه الصناعة في الخمسينيات. بينما طورت هونج كونج صناعة النسيج في الخمسينيات، وفعلت تايوان وسنغافورة نفس الشيء في الستينيات.
في الوقت نفسه كانت هناك صناعات أخرى تتطلب تكنولوجيا بسيطة ولكنها توفر الفوائد التنموية نفسها التي توفرها صناعة المنسوجات. فعلى سبيل المثال كان لدى منتجات مثل الساعات والألعاب والأدوات الصغيرة الأخرى قبول واسع من قبل المستهلكين، وفي ذات الوقت لم تكن تتطلب هذه الصناعات سوى استثمارات منخفضة نسبياً في التكنولوجيا والتكاليف الثابتة.
استفادت اليابان بشكل كبير من التوسع الذي شهده الاقتصاد العالمي في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. ففي خلال الفترة ما بين عامي 1950 و1970 تضاعف حجم التجارة الدولية ثلاث مرات، وكان المستفيد الرئيسي من ذلك التوسع هي البلدان التي كانت توجه صناعاتها المحلية نحو التصدير.
أدى ارتفاع مستويات المعيشة في أوروبا وأمريكا الشمالية خلال تلك الفترة إلى زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية التي تنتجها اليابان مثل المنسوجات والأجهزة الصغيرة والإلكترونيات بل وحتى السيارات.
بمجرد استيعابها وإتقانها لصناعات التكنولوجيا المنخفضة، انتقلت اليابان إلى الصلب ثم الكيماويات وأخيراً الإلكترونيات والصناعات التكنولوجية المتقدمة. وربما أهم قرار اتخذته اليابان في تاريخها الاقتصادي هو توجيه إنتاجها الصناعي المحلي نحو أسواق التصدير.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}