عندما يقيّم غالبية الاقتصاديين تغيرات مثل النمو أو الركود أو البطالة أو غيرها، فإنهم يميلون إلى استعراض "الأسباب الموضوعية" التي تدفع الاقتصاد في اتجاه بعينه، متجاهلين حقيقة أن الاقتصاد "علم إنساني"، تؤثر فيه مخاوف الناس وآراؤهم، وكافة تلك المؤشرات دائمًا ما تحركها "الحكايات" التي ظهر فرع في علم الاقتصاد يحمل اسمها.
أزمة الرهن العقاري والحكايات
يقول "روبرت شيلر"، الحائز على "نوبل" في الاقتصاد، في كتابه "اقتصاد الحكي: كيف تتوسع الحكايات وتقود الأحداث الاقتصادية؟" إن الناس كثيرًا ما يهملون تأثير "اقتصاد الحكايات"، ومن ذلك تأثير الجملة الشهيرة التي انتشرت قبيل الأزمة المالية العالمية بأن "أسعار العقارات لها اتجاه واحد وهو الزيادة".
ويقدر "شيلر" أن مثل تلك الجملة والاعتقاد الراسخ فيها ساهم بدرجة كبيرة للغاية، يقدرها وفقًا لدراسات رأي أجراها في أزمة الرهن العقاري بنسبة تربو على 60% على الأقل، بينما كانت برامج سابقة أقرها الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون" وأسباب أخرى "موضوعية" مسؤولة عن الباقي.
وعلى سبيل المثال فإن "الاندفاع الحاد" نحو الكساد في بداية عام 1920 جاء بالأساس بسبب "الحكايات"، حيث تفشى استخدام كلمة "الاستغلال" وفقًا لـ"وول ستريت جورنال"، حيث بدأ الكثيرون يحكون عن كيفية استغلال الأعمال وحصولها على أرباح مبالغ فيها.
وعلى الرغم من أن تلك الحكايات حول "الاستغلال" لم تترافق مع الدعوة لمقاطعة منتجات بعينها، إلا أن مؤشرات الاستهلاك تراجعت بنسبة كبيرة للغاية، حوالي 12%، بما أدى لدخول الاقتصاد في ركود لم يكن أي من الاقتصاديين يتحسبه أو يرى مقدماته بسبب قيامه أساسًا على "الحكي".
إقرار الذهب كغطاء
ولذلك فإن هذا الركود لم يستمر إلا لبضعة أشهر فقط بين عامي 1920 و1921، ليعاود الاقتصاد بعدها النمو بعد زوال ما رآه الناس قبل ذلك "استغلالًا" بسبب الركود الذي أدى لانخفاض المستوى العام للأسعار بنسبة تجاوزت 14% بقليل.
ولا يقتصر تأثير الحكايات على معاناة الاقتصاد من الركود فحسب، بل يمتد ليشمل النقاشات التي سيطرت على الأجواء في الولايات المتحدة بعد عام 1890 حول ضرورة استخدام مكافئ لقيمة العملات النقدية من العملات الثمينة، حيث تسببت الحكايات حول "شح" المعادن الثمينة الأخرى في اتخاذ قرار باعتماد الذهب دونما بقية المعادن كغطاء نقدي للعملة الأمريكية.
فهذه المعلومة لم تكن صحيحة على الإطلاق، حيث إن هناك الكثير من المعادن النفيسة التي قد تكون أقل تقلبًا من الذهب في أسعارها بسبب محدودية المعروض منها، وليس شحه، كانت تصلح، وكذلك صلحت الفضة، ولكن "الحكايات" حول قيمة الذهب.
وتسببت هذه الحكايات فيما يعرف في علم الاقتصاد بـ"القبول العام" في إقرار الذهب دون غيره كغطاء للدولار بحلول عام 1896 إذ اضطرت الدولة لإقرار غطاء نقدي مقبول لدى مواطنيها بطبيعة الحال، لكي تستطيع ضمان قبول عملتها بشكل واسع.
أهمية الاقتصاد "السردي"
وتشير "فوربس" إلى أنه من اللافت إلى أن كلمة "سردي" لم ترد إلا في 8% فقط من الإحصاءات الاقتصادية بينما تفوق النسبة 20% في حالات علم الاجتماع والسياسة والتطور البشري، ونسب 10% في علم النفس، ليبقى الاقتصاد العلم الأقل في الاهتمام بهذا المنظور من العلوم الاجتماعية.
وتبرر الدورية الأمريكية ذلك بأن حساب الأرقام يبدو أسهل كثيرًا من الاعتماد على مؤشرات ذات طبيعة كيفية وليست كمية، مشيرة إلى أن مثل تلك المؤشرات هي ما جعلت الاقتصاديين الذين يتبنون منهج الاقتصاد السلوكي أقدر على التنبؤ بالفقاعات الاقتصادية والأزمات المالية والركود.
فهؤلاء يستخدمون مناهج تحليلية للسلوك البشري، فقد تتراجع المؤشرات الاقتصادية الكمية، ولكن تبقى حالة من "التفاؤل" في مجتمع ما لأسباب سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك، بما يحد كثيرًا من تأثيرات التراجع بسبب عدم إثارته لحالة من الذعر في الأسواق، ولا سيما أسواق المال.
ويشير "شيلر" في كتابه إلى أن الاقتصاديين الذين يهملون الجانب النفسي المرتبط بالحكايات وعلم النفس وغير ذلك يهملون واقع الأمر أكثر من نصف الاقتصاد، فإذا كان للجانب الإحصائي نصف والنفسي نصف في الاقتصاد، فإن إدراك الأشخاص للجانب الإحصائي يختلف، بما يجعل مساهمة الجانب غير الملموس أكبر ويجعل الاهتمام بالحكايات واجبًا لمن يريد فهم الاقتصاد بشكل جيد واستنتاج مستقبله.
المصادر: كتاب "اقتصاد الحكي: كيف تتوسع الحكايات وتقود الأحداث الاقتصادية؟"، "فوربس"، "وول ستريت جورنال"
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}