"ملكيون أكثر من الملك".. تنطبق هذه العبارة على كثير من الاقتصاديين والمثقفين الذين يدافعون عن صندوق النقد الدولي وسياساته في البلدان النامية أكثر مما يدافع الصندوق عن نفسه.
منذ ظهور ما تسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي التي يفرضها صندوق النقد الدولي على البلدان التي تلجأ إليه، يتعرض الصندوق للكثير من الانتقادات التي تشكك في جدوى سياساته وأهدافها وما إذا كانت تساعد تلك الدول حقاً أم تقودها للحضيض.
وبالتالي حين يخرج علينا من آن لآخر من ينتقد الصندوق وسياساته فلا يمثل ذلك أي مفاجأة للعامة من الناس خصوصاً المهتمين بالشأن الاقتصادي. ولكن الجديد أو المفاجئ وربما الصادم للبعض أن يأتي التشكيك في جدوى سياسات الصندوق من داخل المؤسسة المالية الدولية ذاتها.
الورقة الصادمة
في يونيو من عام 2016 نشر ثلاثة من كبار الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي يتقدمهم نائب مدير إدارة البحوث في الصندوق "جوناثان أوستري" ورقة بحثية مشتركة تسببت في ما يشبه الصدمة للكثير من الاقتصاديين حول العالم الذين تفاجؤوا بتشكيك الورقة في فعالية برنامج الإصلاح الهيكلي الذي تم تطبيقه في الكثير من البلدان حول العالم منذ نهاية الحرب الباردة.
كان عنوان الورقة التي نشرت في مجلة "التمويل والتنمية" التابعة للصندوق، والتي يمكن اعتبارها أيضاً من أهم ما كتب في مجال البحوث الاقتصادية خلال السنوات الثلاث الأخيرة (Neoliberalism: Oversold?) والذي يمكن ترجمته إلى "النيوليبرالية: هل تمت المبالغة في بيعها للناس؟"
وقبل استعراض أهم الانتقادات التي اشتملت عليها الورقة من المهم توضيح الإطار العام لسياسات الصندوق.
أولاً صندوق النقد الدولي داعم رئيسي للنيوليبرالية الاقتصادية، وهذه حقيقة لا جدال فيها، بل إن محاولة التشكيك فيها تشبه بالضبط التشكيك في وجود الولايات المتحدة في قارة أمريكا الشمالية.
يدافع أنصار النيوليبرالية وفي القلب منهم صندوق النقد الدولي عن التجارة الحرة غير المقيدة بأي شكل ويدعمون كذلك إزالة أي قيود على الحركة الدولية لرؤوس الأموال، كما يشجعون الحكومات على خفض حجم ميزانياتها من خلال تدابير التقشف. وفي الوقت نفسه يجادلون بأن الأسواق الحرة هي أفضل محرك متاح لخلق النمو الاقتصادي وانتشال الناس من الفقر.
فتح الباب على مصراعيه
في ورقتهم المشتركة وضح اقتصاديو صندوق النقد الدولي الثلاثة المشاكل المتعلقة بهذه الفلسفة بالتفصيل، حيث أشاروا إلى أن النيوليبرالية تقلل بطبيعتها من استقرار النظام الاقتصادي عن طريق المبالغة في إزالة القيود التنظيمية مما يضر في النهاية بالنمو ويزيد من عدم المساواة.
بشكل أساسي ركزت الورقة على عواقب أهم سياسات الصندوق وخاصة تلك المتعلقة بإجراءات التقشف وحرية حركة رأس المال.
إذا بدأنا بحرية حركة رأس المال سنجد أن الورقة أشارت إلى أن الحرية المطلقة لحركة رؤوس الأموال والتي تسمح للمستثمرين المذعورين بالهروب بأموالهم من أي بلد في لمح البصر ساهمت في اضطراب الكثير من الأسواق وأحدثت الكثير من الأزمات.
فبحسب الورقة، منذ عام 1980 وحتى عام 2016 شهد أكثر من 50 اقتصادا من اقتصادات البلدان الناشئة 150 طفرة في رؤوس الأموال الدولية الداخلة، انتهى 20% على الأقل من هذه الطفرات بأزمات مالية، ربما أشهرها الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997.
إجراءات التقشف.. هل يمكن أن تضر؟
أما الانتقاد الرئيسي الثاني فقد كان موجهاً نحو سياسات التقشف والتي تعتبر أحد الأركان الرئيسية للأجندة النيوليبرالية الخاصة بالصندوق. وعادة ما تتمثل إجراءات التقشف في الخصخصة وتقييد حجم الإنفاق الحكومي من خلال فرض قيود على حجم العجز المالي وعلى قدرة الحكومات على الاستدانة.
توضح الورقة أن سياسات التقشف الهادفة بالأساس إلى تقليل حجم الديون تدفع الحكومات ناحية رفع معدلات الضرائب وخفض إنفاقها الإنتاجي مما يؤدي في النهاية إلى تشوه النظام الاقتصادي وإعاقة النمو، مشيرة إلى أن تكلفة تلك الإجراءات أكبر بكثير من فوائدها.
في ورقة بحثية منشورة في عام 2013 تحت عنوان "الآثار التوزيعية للتقشف المالي" أشار ثلاثة باحثين إلى أن تقليل الحكومة لإنفاقها بما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي يؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة في المدى المتوسط بنسبة قدرها 0.6%، ترتفع إلى 1.5% في غضون 5 سنوات.
باختصار تشير الورقة التي كتبها ثلاثة من كبار الاقتصاديين بالذراع البحثية لصندوق النقد الدولي إلى أن فوائد بعض السياسات التي تشكل جزءاً مهماً من برامج الإصلاح الهيكلي الخاصة بالصندوق قد تمت المغالاة فيها إلى حد كبير، بل إنها قد تأتي بنتائج عكسية في بعض الأحيان مما يزيد الأوضاع تأزماً.
أخيراً، يمكننا القول بأن النيوليبرالية بنسختها الحالية التي يروج لها صندوق النقد الدولي من غير المرجح أن تتغلب عليها أي أيدولوجية أخرى في وقت قريب، ورغم ذلك تشير تلك الورقة البحثية إلى وجود حاجة ماسة لإعادة النظر في الكثير من النظريات التي تقوم عليها هذه الأيدولوجية إذا أرادت أن تعيش لوقت أطول.
المصادر: أرقام -- neoliberalism: oversold?
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}