في الحرب، قبل أن يدخل الجنرال المعركة عليه أن يقوم بمساعدة رجاله بوضع خطط تفصيلية للغاية.
وأثناء وضعه لخطط واستراتيجيات معركته دائماً ما يأخذ في اعتباره ثلاثة عوامل رئيسية بإمكانها أن تؤثر على جيشه وهي:
1- العدو.
2- المناخ والتضاريس.
3- السكان المستهدفون.
وبناء على حالة هذه العوامل الثلاثة يحدد الجنرال كيفية توزيع قواته وتخصيص موارده العسكرية.
وبنفس الطريقة ووفق نفس المنطق تعتمد جودة إدارة الرئيس التنفيذي للشركة بشكل أساسي على كيفية تخصيصه لموارد الشركة في ضوء ثلاثة عناصر هي المنافسون وبيئة العمل وأخيراً المستهلكون. والرئيس التنفيذي المستنير هو من يحاول تحليل الفرص والتهديدات التي تشكلها العناصر الثلاثة السابقة قبل أن يقرر كيفية استخدام موارد الشركة وتخصيصها بطريقة فعالة لتحقيق أفضل أداء.
العوامل الثلاثة التي يأخذها الجنرال في اعتباره أثناء عملية التخطيط لها أولوية معينة في الترتيب. فأي شخص عسكري مدرب جيداً سيدافع جداً عن الترتيب الذي يكون فيه تحليل العدو أولاً ثم تقييم المناخ والتضاريس ثانياً وأخيراً دراسة السكان المستهدفين.
ولكن عند محاولة مراعاة تلك العوامل في سياق تطوير الأعمال والاستراتيجيات التجارية سنجد أنه توجد هناك اختلافات مثيرة للاهتمام بين الشركات الأمريكية ونظيرتها اليابانية في حجم التركيز والاهتمام الذي توليه كل منهما لتلك العوامل.
النهج الأمريكي .. المستهلك أولاً
من العوامل الثلاثة التي تؤثر على أداء الشركات (المنافسين وبيئة العمل والمستهلكين) اختارت الشركات الأمريكية التركيز بشدة على المستهلكين. فعلى مدار القرن العشرين وخصوصاً في الخمسينيات والستينيات كانت الشركات الأمريكية بارعة جداً في تحليل المستهلكين بفضل ريادتها في كثير من المجالات.
على سبيل المثال، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية احتلت الشركات الأمريكية موقع الريادة العالمية في صناعة السيارات وغيرها من الصناعات المتقدمة. وحينها رأت الشركات الأمريكية بما أنه لا خوف عليها من المنافسين فإن أفضل طريقة لتوسيع حصتها السوقية هي التركيز على المستهلكين.
كان منطق الشركات الأمريكية هو أن فهم احتياجات وأذواق وتفضيلات المستهلكين سيمكنها من تلبيتها وإشباعها كما سيساعدها على توقع الاتجاهات المستقبلية للسوق. ولذلك ركز الأمريكان بشكل كبير على تطوير الاستراتيجيات التي تمكنهم من فهم وتحليل المستهلكين.
تصدر الشركات الأمريكية للمشهد عقب انتهاء الحرب جعلها تولي اهتماماً ضئيلاً بالمنافسين الذين رأت أنهم متخلفون عن الركب وبعيدون جداً عنها ولا يملكون الموارد أو الكفاءات التي من شأنها أن تجعلهم قادرين على تهديدها كشركات لها مكانتها العالمية.
لكن لسوء حظ الأمريكان خانهم ذكاؤهم وتقديرهم للأمور، لأنهم تجاهلوا خطورة المنافسين لفترة كانت أطول من اللازم لدرجة أنهم عندما انتبهوا وأفاقوا أخيراً من سباتهم لم يستطيعوا حتى مجاراة أولئك القادمين من الخلف ليسيطروا على الأسواق التي كانت في يوماً من الأيام أمريكية خالصة.
ربما تبرز هذه المفارقة بشكل واضح في صناعة السيارات. فلسنوات طويلة سيطرت الشركات الأمريكية الثلاث "جنرال موتورز" و"فورد" و"كرايسلر" سيطرة شبه كاملة على سوق السيارات العالمي. وعندما ظهرت الشركات اليابانية لأول مرة في السوق لم تعرها الشركات الأمريكية أي قدر من الاهتمام بل سخرت من جودتها ومن النهج التصنيعي الياباني.
في الوقت نفسه رفضت الشركات الأمريكية مرارًا تصنيع السيارات التي توجد فيها عجلة القيادة ناحية اليمين من أجل التصدير، كما تجاهلت الأسواق المتنامية في مناطق مثل آسيا والمحيط الهادي.
هذه الغطرسة الواضحة في التعامل مع المنافسين كانت نتيجتها المباشرة هي تمكن الشركات اليابانية من تولي زمام السيطرة على سوق السيارات العالمي ومنافسة الأمريكيين في سوقهم الخاص لدرجة جعلت أقصى طموحات شركات السيارات الأمريكية الآن هي الحفاظ على حصصهم السوقية الحالية.
النهج الياباني.. العقلية العسكرية لا تزال مسيطرة
بعد خسارتها الحرب العالمية الثانية، واجهت اليابان تحدياً يتمثل في ضرورة إعادة بناء اقتصادها المدمر. كان عليها أن تبدأ من الصفر ومن موقف ضعف. وحينها أدركت أنه لا يمكنها أن تعيد بناء اقتصادها إذا اعتمدت فقط على المساعدات التي كانت تتلقاها في ذلك الوقت من الدول الغربية، وأنه يجب عليها إدارة كل المتاح لديها من مواردها سواء المادية أو البشرية بكفاءة شديدة لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة منها.
الشركات اليابانية أثناء سعيها لبناء علاماتها التجارية وإيجاد موطئ قدم لنفسها على الساحة العالمية لم تستطع الفكاك من العقلية العسكرية التي سيطرت على البلاد لعقود. لذلك كان من الطبيعي جداً أن تصبح الشركات اليابانية مهووسة طوال الوقت بدراسة أعدائها (المنافسين) باعتبار أن العدو هو العامل الأكثر أهمية في التخطيط العسكري.
عكف اليابانيون لسنوات على دراسة منتجات المنافسين بحرص واهتمام شديدين، وحاولوا بعد ذلك صناعة منتجات مماثلة ولكن أرخص. وهذا ما جعل الجميع وفي القلب منهم الأمريكيون يشيرون إلى الشركات اليابانية في الخمسينيات والستينيات على أنها مجرد مقلد رخيص.
لم تبدأ الشركات اليابانية في الابتكار إلا في السبعينيات. ولكنها في نفس الوقت تعمدت عدم الانشغال كثيراً بهذا الجانب وفضلت بدلاً من ذلك التركيز على تطبيق وتنفيذ الاختراعات الموجودة التي ابتكرها الغرب.
على سبيل المثال، قدم عالم الرياضيات الأذربيجاني الأمريكي "لطفي زادة" علم "المنطق الضبابي" للعالم أثناء عمله بأمريكا في التسعينيات، ولكن اليابانيين هم الذين نجحوا في تسويق تطبيقات ذلك العلم في منتجات مثل مكيفات الهواء والمكانس الكهربائية والثلاجات وغيرها من السلع المعمرة الاستهلاكية.
اليابانيون لا يحاولون اختراع العجلة
من النقاط المثيرة للاهتمام في النهج الياباني هي حرص الشركات اليابانية في البداية على تجنب الدخول في منافسة مباشرة مع الشركات الغربية الكبرى حين تختار المنتجات والأسواق التي تنافس فيها.
فاليابانيون كانوا يدركون حجمهم في ذلك الوقت ويعلمون جيداً أنهم لم يكونوا في وضع يسمح لهم بقيادة السوق والابتكار، ولذلك فضلوا في البداية أن يكونوا تابعين ومقلدين. وهكذا لم يكونوا في حاجة للتركيز على المستهلكين لأن هذه هي مهمة قادة السوق حينها (الشركات الأمريكية). بدلاً من ذلك ركز اليابانيون جهودهم على الاستفادة من الطلب الذي أنشأته جهود الشركات الأمريكية المتصدرة للسوق.
تلك كانت الاستراتيجية التي اتبعها اليابانيون طوال الأربعين عاماً التالية للحرب العالمية الثانية والتي مكنتهم من تجاوز الشركات الغربية في الكثير من المجالات. لاحقاً بدأت الشركات اليابانية تركز على البحث والتطوير ولكن الكثير من ابتكاراتها يعتمد بشكل أساسي على علوم نشأت في العالم الغربي.
تمكن اليابانيون من فعل ذلك من خلال تطبيقهم للفكر العسكري الذي يحتل فيه المنافس أو العدو صدارة الأولويات.
المصادر: أرقام
كتاب: Economics and Modern Warfare: The Invisible Fist of the Market
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}