في السنوات الأخيرة استثمرت مجموعة "سوفت بنك" اليابانية مليارات الدولارات في عدد كبير من الشركات الناشئة حول العالم والتي تعمل في قطاعات تكنولوجية مختلفة، وهو ما ساعد تلك الشركات على الإنفاق بسخاء على عملياتها بغرض دعم نموها.
ولكن للأسف جاءت الرياح بما لا تشتهيه سفن "سوفت بنك"، حيث واجه عدد لا بأس به من أبرز الشركات الناشئة التي تضمها محفظة المجموعة اليابانية صعوبات أثرت سلبًا على ربحيتها. وفي محاولة للسيطرة على الوضع، عمدت هذه الشركات إلى خفض تكاليفها من خلال تسريح أعداد كبيرة من موظفيها.
السؤال اللغز
في الأسبوع الأول فقط من عام 2020 قامت 4 من الشركات التابعة لصندوق "سوفت بنك" بالاستغناء مجتمعة عن 2600 من موظفيها. وبحلول أوائل فبراير الجاري وصل إجمالي الموظفين المستغنى عنهم إلى ما يقرب من 3 آلاف موظف.
والجدير بالذكر هو أن هذه الشركات الأربع لم تكن هي أول من يلجأ من شركات "سوفت بنك" لتسريح جزء من الموظفين. فعلى مدار العام الماضي، قامت شركات "أوبر" و"وي ورك" و"واج" و"فير" بالاستغناء مجتمعة عن 7500 موظف، وذلك أيضًا بغرض خفض التكاليف.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كان الغرض هو خفض التكاليف، فلماذا لا تخفض الشركة أجور الموظفين بدلًا من الاستغناء نهائيًا عن بعضهم، وبذلك تحتفظ بكامل فريقها؟ بعبارة أخرى، لماذا تفضل الشركات تسريح عدد من موظفيها بدلًا من خفض أجور الجميع حتى لو كان الخيار الأخير سيوفر لها أموالا أكثر من الأول خصوصًا وأن العمال المستغنى عنهم سيحصلون بالتأكيد على مكافآت نهاية الخدمة؟
ورغم بساطته الظاهرة، إلا أن السؤال السابق هو في الحقيقة واحد من أقدم وأهم الألغاز وأكثرها إثارة للجدل في علم الاقتصاد. فهناك تفسيرات كثيرة لثبات أو عدم مرونة الأجور خلال فترات الركود ولكن أكثر هذه التفسيرات غير مقنع. فالكينزيون على سبيل المثال يعترفون بعدم مرونة الأجور غير أنهم لا يتفقون على السبب وراء ذلك.
هناك مثلًا من يشير إلى أن النقابات والاتحادات العمالية هي من تقف حجر عثرة في طريق إدارات الشركات إذا حاولت خفض رواتب الموظفين. بينما يقول "كينز" نفسه إن الشركات لا تجرؤ على خفض أجور الموظفين لأنها تعرف أنهم سيقارنون ما يحصلون عليه مع ما يحصل عليه نظراؤهم في الشركات الأخرى.
التفسيرات السابقة ربما بعضها صحيح وربما كلها خاطئة، من يدري؟ لم يستطع الاقتصاديون الجزم بشيء لأن بيانات سوق العمل التي اختبروا بها نظرياتهم كانت غير كافية.
السر في المشاعر
بداية من عام 1999 لم تعد إجابة هذا السؤال لغزًا. ففي ذلك العام نشر أستاذ الاقتصاد الأمريكي بجامعة "يل" "ترومان بيولي" كتابه الشهير "لماذا لا تنخفض الأجور أثناء الركود" والذي استند فيه إلى مئات المقابلات التي أجراها مع عدد كبير من مديري الشركات الأمريكية.
في بداية الكتاب فند الرجل التفسيرين السائدين في ذلك الوقت حول عدم إقدام الشركات على خفض أجور موظفيها. أوضح "بيولي" أنه لا توجد علاقة بين النقابات وبين إحجام الشركات عن خفض الأجور لسببين، الأول هو أن أغلب الشركات الأمريكية لا يوجد بها نقابات عمالية، أما الثاني فهو أنه حتى في تلك التي يوجد بها نقابات فقد اتضح أن حائط الصد الأساسي أمام فكرة خفض الأجور هي الإدارة وليست النقابات.
أما بالنسبة لنظرية "كينز" فأشار "بيولي" إلا أنه على الرغم من أن معدلات الأجور في الشركات غير النقابية مرتبطة بالعرض والطلب إلا أن هذه الشركات لا تزال تمتلك الكثير من الحرية في تحديد أجور عمالها وذلك لأن أغلبهم لا يعرف كثيرًا عن معدلات الأجور في الأماكن الأخرى.
إذن، ما هو التفسير الصحيح؟ خلصت أبحاث "بيولي" إلى أن السبب الرئيسي وراء عدم إقدام الشركات على خفض أجور الموظفين هو إدراكها أن تلك الخطوة تلحق ضرارًا كبيرًا بالحالة المعنوية للموظفين يؤدي بالتبعية إلى تدهور إنتاجيتهم، وهو ما قد يتسبب للشركة في خسائر تتجاوز بكثير تكلفة تسريح جزء من العمالة.
ولكن ما أهمية معنويات الموظفين أو ما يشعرون به؟ ببساطة من مصلحة الشركة أن تكون الحالة المعنوية للموظف في أعلى مستوياتها ليس فقط لأن هذا سيعزز من إنتاجيته ولكن أيضًا لأنه سيجعله أكثر حرصًا على مصالح الشركة وهذه نقطة بالغة الخطورة والأهمية، لماذا؟
أغلب الموظفين يقومون بأعمال يصعب مراقبتها بدقة، وفي نفس الوقت ليس بوسع أي شركة إجبار موظف غاضب على الأداء بأفضل صورة ممكنة، لأنه في أحسن الأحوال سيقوم فقط بالمطلوب منه ولن يبذل أي جهد في الاعتناء بمصالح الشركة خارج هذا الإطار، أو سيمتنع ببساطة عن تبادل المعلومات مع زملائه مما يؤثر على الأداء الجماعي للموظفين. ولذلك نادرًا ما تلجأ الشركات إلى الإكراه.
التضحية بالبعض للحفاظ على المجموع
يقول "بيولي" إن الشركات التي تواجه صعوبات وترغب في خفض تكاليفها تفضل عادة تسريح جزء من موظفيها لأن الضرر المعنوي لتلك الخطوة على الموظفين ككل أقل كثيرًا بالمقارنة مع الضرر الذي تحدثه خطوة خفض الأجور.
الموظف مثله مثل أي إنسان عادي يتأثر بما يسميه علماء الاقتصاد السلوكي "النفور من الخسارة". فعلى سبيل المثال، خصم الشركة لألف ريال من راتب الموظف يتسبب له في ألم نفسي يتجاوز ضعف ما يشعر به من سعادة لو زاد مرتبه بذات الألف ريال.
ولذلك فإن خفض أجور الموظفين يؤلمهم نفسيًا بشدة. فالموظف الذي اعتاد أن يحصل على المكافآت تقديرًا لولائه وإتقانه في عمله سيميل لتفسير خفض أجره كإهانة وعدم تقدير من الشركة لما يبذله من مجهود وهو ما سيؤثر سلبًا على معنوياته وولائه ويؤدي إلى خسائر جسيمة بالإنتاجية.
تدرك الشركات أن خفض الأجور يؤذي معنويات جميع موظفيها وربما يؤدي إلى تدهور إنتاجيتهم بشكل متسارع، وفي حين أن الاستغناء عن عدد منهم قد يؤثر سلبًا أيضًا على معنوياتهم إلا أن ذلك التأثير سرعان ما سيزول لأن الموظفين المتضررين سيغادرون في النهاية وسينساهم مع الوقت الجميع.
أما الجانب الأكثر أهمية فهو أن خفض الأجور يعرض الشركة إلى خطر فقدان أكفأ موظفيها وأكثرهم إنتاجية الذين ربما لن يعجبهم الحال وسيقدمون على مغادرة الشركة إلى غيرها. في المقابل، عندما تفكر الشركة في تسريح عدد من موظفيها فإنها عادة ما تختار الاستغناء عن الأقل كفاءة وإنتاجية.
ما سبق ربما يوضح ولو قليلًا لماذا لم تقم شركات "سوفت بنك" بخفض أجور موظفيها بدلًا من تسريح بعضهم.
المصادر: أرقام – إيكونوميست – بيزنيس إنسايدر
كتاب: Why wages don't fall during a recession
دراسة: Fighting the recession: cutting wages versus laying off workers
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}