لا يمكن أن تكون الأساليب الإحصائية مهما بلغت درجة تعقيدها أكثر ذكاءً من الأشخاص الذين يستخدمونها، بل إنه في بعض الأحيان قد تدفع هذه الأساليب أشخاصًا أذكياء إلى ارتكاب أخطاء غاية في الغباء تؤدي إلى كوارث، وهو ما حدث بالضبط قبيل الأزمة المالية العالمية الأخيرة قبل أكثر من عقد زمني.
في العام 2007، أي قبل اندلاع أزمة 2008 بعدة أشهر، لاحظ العديد من المحللين أن البنوك الاستثمارية الكبرى في وول ستريت تستثمر بكثافة في عقود المشتقات المالية المدعومة بالرهون العقارية وأصبحت غارقة حتى أذنيها في مليارات الدولارات من هذه العقود، وهو ما يعرض استقرار هذه البنوك ومن ورائها النظام المالي الأمريكي بالكامل لخطر الانهيار لو اهتز القطاع العقاري مجرد هزة بسيطة.
لكن في المقابل، كانت البنوك والشركات الاستثمارية الأمريكية تطمئن المستثمرين بأن كل شيء على ما يرام وأن الأمور تحت السيطرة وأنه لا داعي أبدًا للقلق لأنهم منتبهون جدًا ويحسبون حساب كل شيء، لكن ما سر هذه الثقة؟ كانت هذه التطمينات تستند بشكل كبير إلى نتائج نموذج رياضياتي معقد كانت تستخدمه تلك الشركات في قياس المخاطر.
99 % لن نخسر!
هناك العديد من النماذج الإحصائية التي اعتمدت عليها الشركات الاستثمارية الأمريكية، غير أن أكثر هذه النماذج شهرة واستخدامًا في ذلك الوقت كان نموذج ""Value At Risk أو "القيمة المعرضة للخطر" والمعروف اختصارًا باسم " VaR" أو "ڤار".
والڤار ليس نموذجًا واحدًا بل مجموعة من النماذج المتشابهة التي يجمعها إطار رياضياتي واحد. ومهمة الڤار في شكله الأكثر شيوعًا هي قياس حدود المخاطر التي تواجه المحفظة خلال فترة زمنية قصيرة. بعبارة أخرى، يقيس الڤار الحد الأقصى للخسارة المحتملة للمحفظة، ويوضح للمستثمر بالضبط أقصى مبلغ يمكن أن يخسره واحتمالية ذلك.
على سبيل المثال، إذا أدخل البنك البيانات الخاصة بمحفظة معينة يمتلكها في نموذج الڤار وكانت النتيجة 100 مليون دولار في الأسبوع، فهذا يعني أن هناك احتمالاً قدره 99% ألا تخسر هذه المحفظة أكثر من 100 مليون دولار خلال هذا الأسبوع.
الأرقام المحددة التي يخرج بها نموذج الڤار إلى جانب إمكانية تطبيقه على فئات مختلفة من الأصول (أسهم وسندات وعقود مشتقات) ساهمتا في ازدياد شعبيته بين كبرى الشركات والمؤسسات الاستثمارية حول العالم وفي الولايات المتحدة تحديدًا، كما أن هناك سببًا آخر عزز من شعبية الڤار يتمثل في قدرته على قياس المخاطر للمحفظة الفردية ولمجموعة كبيرة من المحافظ كوحدة واحدة.
تقرير الساعة الرابعة والربع
قبيل وقوع الأزمة المالية العالمية في 2008، كان هناك تقرير يوضع على مكاتب المديرين التنفيذيين في بنك "جيه بي مورجان" – المطور الأساسي لنموذج الڤار – في مساء كل يوم عقب إغلاق السوق الأمريكي يعرف باسم تقرير الساعة الرابعة والربع، كان هذا التقرير عبارة عن ملخص لحسابات نموذج الڤار للمخاطر التي تواجه محافظ البنك واستثماراته المختلفة.
هذا التقرير كان يوضح لكبار مديري البنك أقصى المبالغ التي يمكن أن يخسرها "جيه بي مورجان" في كل مراكزه خلال مدة زمنية معينة تتراوح عادة ما بين يوم واحد وأسبوع، نظريًا، من المفترض أن هذا شيء جيد لأنه يجعل البنك أكثر دراية بحجم المخاطر التي تواجه استثماراته ومن ثم التصرف على هذا الأساس، ولكن هل كان كذلك فعلًا؟
بمجرد انفجار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة واقتراب النظام المالي الأمريكي الغارق بشدة في منتجات المشتقات المالية المدعومة بالرهون العقارية من حافة الانهيار أصبح نموذج الڤار فجأة في مرمى النيران، لتتنوع الأوصاف التي تطلق عليه ما بين "جريمة مكتملة الأركان" و"كارثة حقيقية" و"احتيال"، بالإضافة إلى العديد من الأوصاف الأخرى التي لا يتناسب ذكرها مع سياسة أرقام.
بشكل مباشر ألقى كثيرون اللوم على النموذج باعتباره أحد الأسباب الرئيسية وراء اندلاع الأزمة واتساع نطاقها لاحقًا، ببساطة كان النقد الرئيسي الموجه لنموذج الڤار هو أنه في الحقيقية غير مفيد ومضلل لأن المخاطر الأساسية المرتبطة بالأسواق المالية لا يمكن التنبؤ بها، وهذه الدقة الزائفة التي بدت عليها نتائج النموذج ولّدت لدى مستخدميه شعورًا زائفًا بالأمان.
عداد السرعة المضلل
كانت هناك مشكلتان كبيرتان في نموذج الڤار؛ الأولى هي أن استنتاجاته كانت مبنية على أساس تحركات السوق في الماضي، فقد كان يفترض أن تحركات الأسواق المالية في الفترة ما بين عامي 1980 و2005 هي أفضل مؤشر على ما يمكن أن يحدث في الأسواق بعد عام 2005، ولكن هذا افتراض غير منطقي بالمرة وخصوصًا في بيئة متقلبة وغير متوقعة كسوق الأسهم.
هذه المشكلة أشار إليها الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي "آلان جرينسبان" في إحدى جلسات الاستماع أمام الكونجرس بعد اندلاع الأزمة حين قال: "إن الصرح الفكري قد انهار برمته في صيف 2007 لأن البيانات المدخلة في نماذج إدارة المخاطر كانت تغطي فقط العقدين الماضيين وهي فترة النشوة".
أما المشكلة الثانية فهي أن نسبة الاحتمالات التي كان يخرج بها الڤار خادعة وغير مفيدة أصلًا، فحتى لو كانت حسابات الڤار تشير إلى درجة تأكد قدرها 99% فإنه لا يزال هناك احتمال قدره 1% أن تتجاوز الخسائر الرقم المشار إليه من قبل الڤار، كانت الشركات والبنوك تركز على احتمال الـ99% وتتجاهل بشكل غريب وجود احتمال قائم قدره 1% بأن تخسر أكثر من هذا الرقم.
والمدهش هو أن الڤار لم يكن يوفر الكثير من المعلومات حول احتمالية تجاوز الخسارة للمبلغ المذكور، وهو ما ساهم في عدم التفات البنوك والشركات لهذا الاحتمال وتقاعسهما عن محاولة الاستعداد للسيناريو الأسوأ.
كان الڤار في الحقيقة أشبه بعداد السرعة المعطوب الذي يعطي قراءات غير صحيحة لسرعة السيارة، وهذا بالتأكيد أسوأ بكثير من عدم وجود عداد سرعة أصلًا؛ فالسائق إذا صدق قراءات العداد المعطوب لن ينتبه إلى العلامات الأخرى التي تشير إلى أن سرعته غير آمنة، في المقابل، إذا لم يكن بالسيارة عداد سرعة، فلا خيار أمام السائق سوى البحث عن علامات توضح له مدى السرعة التي يسير بها.
باختصار ساهم الڤار بمشكلاته البنيوية في إكساب البنوك والمؤسسات الاستثمارية شعورًا زائفًا بالسيطرة والأمان قبل أن ينكشف سترهم مع اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008 التي تسببت في خسارة الملايين لأجزاء كبيرة من ثرواتهم وفي معاناة العالم من أسوأ موجة انكماش مالي منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز
كتاب: Naked Statistics: Stripping the Dread from the Data
دراسة: What Happened to Risk Management During the 2008-09 Financial Crisis؟
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}