اعتاد علم الاقتصاد قديمًا على وصف السلوك الإنساني بأنه ينبع من تصرفات عقلانية تستهدف تحقيق أقصى إشباع ممكن للاحتياجات البشرية.
لكن الصورة العقلانية البحتة للتصرفات الإنسانية في عالم الاقتصاد والاستثمار لم تصمد طويلاً أمام الاختبارات النظرية والعملية.
ومع بزوغ نجم الاقتصاد السلوكي في الأعوام الماضية ظهر الإنسان في صورته الطبيعية المتمثلة في تحكم العواطف والتحيزات في جانب كبير من قراراته الحياتية والاستثمارية.
كم تدفع مقابل دولار؟
ربما تعتقد أن 99 سنتًا على الأكثر هي الإجابة المنطقية لسؤال كم تدفع مقابل الحصول على دولار واحد، لكن الأمر قد لا يكون بهذه السهولة.
في عام 1971 أصدر عالم الاقتصاد في جامعة يل الأمريكية " مارتن شوبيك" دراسة مكونة من ثلاث صفحات يناقش فيها لعبة أطلق عليها اسم "مزاد الدولار".
في اللعبة يوجد شخص يمتلك دولارًا واحدًا يقرر عرضه في مزايدة يشارك فيها شخصان، بالطبع صاحب العرض الأعلى سيفوز بالورقة الخضراء، لكن المختلف هنا أن مقدم العرض الأقل سيكون لزامًا عليه دفع آخر سعر عرضه أيضًا.
سيرى كل طرف من الطرفين أن الأمر بسيط ومربح: بإمكاني أن أفوز بالدولار مقابل مبلغ أقل وأحصل على ربح سهل، وبالتالي سيبدأ المزاد.
في البداية سيعرض الشخص الأول 5 سنتات مقابل الحصول على ورقة الدولار على اعتبار أنه إذا فاز سيحقق ربحًا ملحوظًا، لكن بالطبع سيرد الثاني بعرض 10 سنتات.
يستمر الطرفان في عرض سعر أعلى ردًا على بعضهما البعض وفي مخيلة كل شخص أنه لا يزال من الممكن تحقيق ربح ما حتى لو كان يقل رويدًا رويدًا.
لكننا سريعًا نصل لنقطة فاصلة: الشخص الأول وصل بالعرض إلى 99 سنتًا ليكون أمام المزايد الثاني حلان لا ثالث لهما: زيادة عرضه لدولار واحد وبالتالي لن يربح شيئًا إذا فاز بالمزاد، أو ينسحب ويخسر قيمة عرضه الأخير والبالغ 98 سنتًا.
سيبدو الأمر الأكثر منطقية هنا هو السعي لتفادي الخسارة حتى لو على حساب عدم تحقيق أي ربح (أحصل على دولار مقابل آخر أفضل من دفع 98 سنتًا وعدم الحصول على أي شيء).
قد يبدو هذا التفكير منطقيًا بالفعل، لكن ماذا عن رد فعل الشخص الآخر في المزاد؟
بالطبع عندما يرفع المزايد الثاني عرضه لدولار واحد سيكون الشخص الأول على موعد مع نفس المعضلة: الانسحاب وخسارة 99 سنتًا أم المزايدة بـ1.01 دولار مع احتمالية الفوز بالمزاد وخسارة سنت واحد فقط؟.
ما حدث هنا أن المتنافسين تحولا من السعي لتحقيق أقصى ربح في بداية المزاد إلى الرغبة في تحقيق أي ربح في منتصفه ثم أخيرًا المحاولة اليائسة لتفادي الخسارة الأكبر.
وما بدأ منطقيًا وعقلانيًا وصائبًا تحول تدريجيًا إلى تهور ولا عقلانية وخطر، والفرصة السهلة للربح تحولت لجنون مطبق.
وفي معظم التجارب التي شارك فيها طلبة أو خريجون أو حتى رجال أعمال، تعرّض المشاركون لفخ عرض مبالغ أعلى من قيمة الجائزة النهائية، بل وصل الأمر بأحد الأشخاص إلى دفع 2000 دولار مقابل الفوز بعملة من فئة 20 دولارًا فحسب.
وبالتالي يصبح إعلان الفائز مجرد "فوز افتراضي" فحسب، لأن الطرفين سيخسران في النهاية.
من اللعبة إلى الواقع
الواقع أن لعبة "شوبيك" على بساطتها تعبّر عن مدى الضرر الممكن حدوثه عندما يرفض طرفان التعاون ويدخلان في تنافس محموم يقوده المنطق والعقلانية إلى النقيض تمامًا.
ويقول عالم الاقتصاد الأمريكي: "هذه اللعبة البسيطة هي نموذج للتصعيد، بمجرد الدخول إلى المنافسة فإن الاحتمالات تتزايد أن تكون النهاية عبارة عن كارثة لكلا الطرفين".
وتبدو هذه الحقيقة واضحة في السياسة الدولية مثلاً في قصة التصعيد الأمريكي السوفيتي في ستينيات القرن الماضي؛ بسبب أزمة صواريخ كوبا والتي كادت تعصف بالعالم في حرب نووية بين القوتين العظميين آنذاك.
وفي شهر أكتوبر من عام 1962 وقف العالم على حافة حرب نووية مع مطالبة الولايات المتحدة للسوفيت بسحب الصواريخ من الأراضي الكوبية والتي تمثل تهديدًا للسواحل الأمريكية، وهو الطلب الذي رفضه الروس بقوة.
وبلغ التصعيد أشده بين القوتين النوويتين طوال 13 يومًا، قبل أن يتواصل الرئيسان الأمريكي والروسي "جون كيندي" و"نيكيتا خرتشوف" وينهيان الأزمة.
وفي عالم الأعمال تبرز العديد من الأمثلة على صراع "مزاد الدولار"؛ حيث قد يؤدي دخول شركتين متنافستين في صراع لخسائر حادة لكلا الطرفين.
ففي صيف عام 1993 تقدمت شركة "فياكوم" بعرض لشراء "بارامونت للاتصالات" بقيمة 63 دولارًا لكل سهم في الوقت الذي كان فيه السهم يتداول عند 52 دولارًا.
وفي منتصف سبتمبر من نفس العام رفعت "فياكوم" عرضها لـ69 دولارًا، قبل أن تدخل "كيو.في.سي" حلبة الصراع ليرتفع عرض الشركتين لشراء "بارامونت" إلى 80 دولارًا ثم يصل مع التصعيد المتواصل بينهما إلى 105 دولارات.
وفي فبراير من العام التالي تقدمت "فياكوم" بعرضها الأخير والناجح بقيمة 107 دولارات، لكن بعد تراجع قيمة سهمها في فترة المنافسة من 60 دولارًا إلى 45 دولارًا وانخفاض سهم الشركة المنافسة من 56 إلى 39 دولارًا.
صراع الند للند تسبب في خسارة كبيرة لأسهم الشركتين في السوق.
وتعتبر الحرب التجارية الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين أحدث الأمثلة على التصعيد المتبادل للصراع بين جانبين، والذي قد يستمر في الإضرار بكليهما حتى يقرر أحدهما أو كلاهما التوقف واللجوء للتفاوض.
الهروب من الفخ
إذن كيف كان يمكن تفادي سيناريو التصعيد بين طرفي الصراع؟
في البداية، يمكن عدم دخول الصراع من الأساس إذا رسمت سيناريو بعيد المدى لما يمكن أن يصل إليه الأمر في حال تصعيد الطرف الآخر للمنافسة وعدم الانسحاب.
وتبرز هنا أهمية التفكير طويل المدى وعدم الاكتفاء بالنظرة البسيطة الأولية للأمور أو الاهتمام بالمصلحة الشخصية وتجاهل توقع رد فعل المنافس.
لكن إذا سبق السيف العذل ودخلت بالفعل في المنافسة، فإنه في كل الحالات السابقة كان يمكن إنقاذ الموقف ووقف الخسائر المتبادلة عبر التعاون بين أطراف الصراع بدلاً من المنافسة.
تخيل مثلاً في مزاد الدولار إذا تفاهم الطرف الأول مع منافسه من خلال منحه وعدًا باقتسام الربح حال التوقف عند حد معين، وبالتالي يستفيد الطرفان بدلاً من الخسارة معاً.
وإذا لم يكن التعاون أو التفاهم حلاً ممكناً، فإنه من الضروري أيضًا معرفة أن الخوف من الخسارة ربما يجعلك تخسر أكثر لاحقًا، وبالتالي لا عيب في الخروج خاسرًا من صراع ما لتفادي فخ التفكير المبني على التمني والرغبة الشخصية.
لكن ربما الدرس الأهم هنا يتمثل في أن الخيط بين التصرف العقلاني ونقيضه يبدو أحيانًا رفيعًا جدًا، وما قد يبدأ منطقيًا قد يتحول سريعًا لفعل متهور يتنافى مع أبسط قواعد المنطق.
المصادر: ارقام- بيهيفير إيكونوميكس – يل مانجمينت
دراسة The Dollar Auction Game: A Paradox in Noncooperative Behavior and Escalation
دراسة The Dollar Auction Game: A laboratory comparison between Individuals and Groups
دراسة A VERY EXTREME CASE OF THE DOLLAR AUCTIO
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}