في بدايات ظهور سوق الأسهم كان الحصول على أحدث المعلومات المتعلقة بالشركات المدرجة أمرًا صعبًا جدًا بالنسبة لكل المستثمرين؛ ففي ذلك الوقت، إذا أراد المستثمر أن يعرف مثلًا تغيرات أسعار الأسهم التي يمتلكها بمحفظته كان عليه الانتظار حتى اليوم التالي ليشتري أيًا من الصحف المالية وينظر في صفحة الأسعار.
لكن الآن وبفضل التطور التكنولوجي الهائل والانتشار المتزايد لشبكات ومواقع الأخبار المالية التي تعمل على مدار الساعة أصبح مستثمرو سوق الأسهم في مواجهة سيل لا ينقطع من المعلومات والأخبار التي تتناول تفاصيل لا حصر لها، هذا قد يراه أكثرنا شيئًا جيدًا، ولكن هل هو كذلك فعلًا؟
كثير لا يفيد
في كثير من الأحيان يضر هذا التدفق الهائل للمعلومات بالمستثمرين ولا يفيدهم؛ فكل شخص يستثمر في شركة يحاول طوال الوقت الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات حولها، وكلما حصل على المزيد زاد إحساسه بنوع من السيطرة الزائفة على الوضع بشكل قد يعوق قدرته على اتخاذ القرار السليم.
هذه الرغبة في الشعور بالسيطرة تأتي غالبًا على حساب قدرة المستثمر على التفكير بمنطقية وبشكل عقلاني. باختصار، إن كثرة المعلومات المتاحة هي أخطر ما يواجه مستثمري سوق الأسهم هذه الأيام، هذه الفكرة ربما يوضحها المثال التالي الذي ذكره "ستيفين جاي دوبنر" و"ستيفين ليفيت" في كتابهما "الاقتصاد العجيب".
في سبعينيات القرن الماضي، كانت غرفة الطوارئ بمستشفى مقاطعة كوك في مدينة شيكاغو الأمريكية مثقلة بالأعباء وتعاني من التكدس وبحاجة إلى تحسين كفاءتها، وحينها قرر مدير المستشفى تعديل إجراءات التشخيص المتبعة في حالة المرضى الذين يعانون من آلام في الصدر وذلك بغرض استغلال الموارد المحدودة للمستشفى أفضل استغلال.
بدلًا من الاعتماد على التشخيص المباشر للأطباء بعد فحصهم للمريض سريريًا لتحديد مدى حاجته لدخول غرفة العناية المركزة، سيتم تشخيص المرضى بناءً على شجرة قرار صارمة طورها طبيب القلب "لي جولدمان".
كانت شجرة القرار هذه تتكون من 4 فروع فقط ترشد الأطباء إلى الأعراض التي يجب أن يقبلوا على أساسها إدخال المرضى إلى غرفة العناية المركزة، وكانت الأعراض كالآتي: 1- مشاكل بمخطط كهربية القلب 2- ذبحة صدرية غير مستقرة 3- سوائل بالرئتين (ضيق تنفس) 4- انخفاض ضغط الدم.
بهذه البساطة! لم تشر شجرة القرار لا إلى السن ولا الوزن ولا إلى أي شيء آخر، ولا حتى إلى الحدس الطبي للطبيب، وبالفعل بدأ الأطباء في المستشفى اتباع البروتوكول الجديد الذي استغربوه في البداية، لكن كيف كانت نتائجه؟ بفضل هذا البروتوكول تحسنت قدرة الأطباء على تحديد الأزمات القلبية الحقيقية بنسبة 70%.
متابعة الأخبار = أداء أسوأ
المستثمر الذكي بإمكانه أن يخرج بدرس قيّم من القصة السابقة، وهو أن المستثمرين ليسوا في حاجة إلى كم هائل من المعلومات لكي يتخذوا قرارًا استثماريًا صائبًا؛ لأن هذه التخمة المعلوماتية قد تضر بقدرتهم على اتخاذ قرارات جيدة وتدفعهم للتسرع، وهذا بالضبط ما أثبتته دراسة لجامعة "هارفارد".
في أواخر الثمانينيات أجرى أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد "بول أندرسين" دراسة طلب خلالها من 3 مجموعات مختلفة من الطلاب تكوين محافظ من الأسهم، وكانت النصيحة الوحيدة التي أعطاها للمجموعات الثلاثة هي: "اشتر الأسهم بسعر أقل مما ستبيعها به، وبعها قبل أن ينخفض سعرها"، بعبارة أخرى: "اشتر بالرخيص وبع بالغالي".
تم عزل المجموعات الثلاث عن بعضهم لغرض ما؛ فالمجموعة الأولى لم تتلق أي خبر عما يجري في البورصة، بينما تلقت المجموعة الثانية الأخبار الحقيقية التي تخرج على مدار الساعة، في حين لم تحصل المجموعة الثالثة إلا على الأخبار القديمة بعض الشيء والتي أثرت بالفعل على أسعار الأسهم.
كيف كان أداء المجموعات الثلاث؟ مثيرًا جدًا للاهتمام في الحقيقة! كان أداء المجموعة التي تتلقى الأخبار الحالية للسوق هو الأسوأ من بين المجموعات الثلاث؛ وذلك بسبب ميلها إلى الإفراط في التداول على خلفية استجابتها شبه الفورية لأي خبر يخرج.
في المقابل تعادل أداء المجموعة التي لم تتلق أبدًا أي أخبار مع نظيرتها التي لم تتلق سوى الأخبار القديمة، وكلتا المجموعتين حققت عوائد تقارب ضعف ما حققته المجموعة التي كانت تتابع أحدث الأخبار الصادرة عن الصحف والبرامج التلفزيونية.
واكتشفت الدراسة أن المشكلة لم تكن في طبيعة المعلومات سواء كانت إيجابية أو سلبية، بل في الاستجابة غير المناسبة والمستمرة لأي معلومة متاحة، وأشارت أيضًا إلى ميل كثير من المستثمرين إلى اعتقاد خاطئ مفاده أن مشاهدة المزيد من الأخبار تعني حصولهم على مزيد من المعلومات المهمة التي ستمكنهم من اتخاذ قرارات استثمارية أفضل.
حتى يهدأ الغبار
ما لا يدركه كثيرون هو أن أكثر الأخبار المنشورة في وسائل الإعلام المالية حول الشركات المدرجة بالبورصة هي ضجيج أكثر منها معلومات حقيقية يمكن أن يبنى عليها قرار، وتكمن خطورة هذا الضجيج في أنه يلامس دائمًا عرقًا حساسًا جدًا لدى المستثمرين وهو خوفهم من الخسارة أو ضياع الفرصة.
من ناحية أخرى، يتيح هذا التدفق الهائل للمعلومات المتاحة على الإنترنت للمستثمرين إمكانية انتقاء الأدلة التي تتفق مع حدسهم وقناعاتهم المسبقة بسهولة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى مبالغتهم في ثقتهم بقدرتهم على انتقاء الأسهم ووقوعهم في فخ ما يسميه علماء النفس "وهم السيطرة".
المستثمر الذكي إذا خرجت تقارير إعلامية تخص أحد أسهمه سيحجم عن الفعل وسينتظر قليلًا حتى تتضح الصورة ويخفت صوت الضجيج الإعلامي، في الواقع من النادر أن تتأثر خطة طويلة الأجل بشكل كبير بفترة قصيرة من الانتظار، وإذا انتظر مثلًا مدة 7 أيام غالبًا ما سيجد نفسه ليس في حاجة إلى إجراء أي تغيير بمحفظته.
أهمية فترة الانتظار هذه تكمن في أنها ستساعد على تخفيف الضغط والقلق المسيطرين على عقل المستثمر لحظة صدور الخبر أو استلامه للمعلومة بشكل يسمح له باتخاذ قراره في حالة ذهنية أكثر هدوءًا بعد وضوح الرؤية.
أخيرًا، إن المتابعة اللصيقة للأخبار تجعل المستثمر دائمًا واقعًا تحت ضغط وأنه يجب أن يفعل شيئًا ما، ولكن ما لا يدركه هو أنه في كثير من الأحيان يكون عدم الفعل فعلاً في حد ذاته، ولذلك نقول لك: اجلس على كرسيك في هدوء وثقة وراقب الوضع بتأن وعدم اندفاع والتزم بالخطة ولا يغريك أو يخيفك لا الضجيج ولا تقلبات السوق المؤقتة.
المصادر: أرقام
كتاب: Your Investor Blind Spots
كتاب: Your Money and Your Brain
كتاب: Freakonomics
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}