رغم أن اسمه قد لا يكون مألوفاً بالنسبة للكثيرين، لكن يظل "روبرت موريس" أحد أبرز أسباب نجاح الثورة الأمريكية ضد البريطانيين وتأسيس الولايات المتحدة قبل 244 عاماً.
لكن مع نجاح "موريس" في إنقاذ الدولة الأمريكية الوليدة في سنوات الثورة والتأسيس الأولى، فإن تجاهله لنصائحه المالية الخاصة جعله يتحول من الثراء والسلطة إلى الإفلاس والسجن.
البداية.. الصعود.. الثروة
ولد "روبرت موريس" في إنجلترا وبالتحديد في مدينة "ليفربول" في عام 1734، قبل أن يقرر والده الهجرة والاستقرار في "ماريلاند" الأمريكية مع وصول الفتى لعامه الثاني عشر.
بحث "موريس" الأب عن فرصة تدريب ليلتحق بها "روبرت"، وبالفعل بدأ الأخير عمله في شركة ملاحة تدعى "ويلينغ أند كومباني" في فيلادلفيا، قبل أن يثبت تفوقاً في مجال التجارة.
لكن ما كان يميز الشاب الصغير آنذاك ليس فقط الحس التجاري المتميز والاهتمام بأدق التفاصيل في العمل، وإنما الشخصية الودودة التي جعلته يمتلك شعبية كبيرة لدرجة أن يعرض عليه ابن صاحب العمل "توماس ويلينغ" الدخول في شراكة تجارية.
خلال سنوات قليلة، تمكنت شركة "ويلينغ وموريس" من امتلاك ست سفن وتحقيق أرباح جيدة عبر تجارة البضائع مع جزر الهند الغربية، ناهيك عن المضاربة في الأوراق النقدية التي تصدرها بعض المستعمرات في شكل سندات ائتمان.
تمتع "موريس" بالهدوء والحكمة والقدرة على اختيار نطاق استثمارته بعناية، ما ظهر في نصيحة قدمها لشريك مبتدئ بقوله: "من الضروري أن تكبح جماح رغبتك في ألا يفوتك أي شيء".
توسعت أعمال وثروة "موريس" بالنظر إلى استثماراته الداخلية والخارجية وعلاقته المتشعبة مع مستثمرين فرنسيين وغيرهم، بالإضافة إلى زواجه من فتاة من عائلة مرموقة ما ساهم بشكل إيجابي في اتساع نطاق أعماله.
كان "موريس" أول رجل أعمال حقيقي في الدولة الناشئة، حيث كان يؤمن بمبادئ الملكية الخاصة والتجارة الحرة الخالية من أي تدخل، كان رأسمالياً في وقت لم يكن يعرف هذا المسمى.
لكنه كان على وشك التحول إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير.
الثورة وأيام تاريخية
عندما دخلت الولايات الأمريكية في معركة عسكرية ضد بريطانيا العظمى كان لديها الرغبة في الاستقلال والاستعداد للمخاطرة بكل شيء، لكنها لم تكن تمتلك أموالاً كافية لشراء السلاح أو حتى توفير الغذاء للجنود.
ولم يرغب الأمريكان في فرض أي ضرائب، ففي النهاية كانت الضرائب البريطانية أحد الأسباب التي دفعتهم للسعي نحو طريق الحرية بعيداً عن استغلال الإمبراطورية العظمى.
ورغم اعتماد الكونجرس القاري آنذاك على قروض الأثرياء ومساعدات فرنسا وحتى مصادرة أموال المتعاطفين مع بريطانيا، فإن الأمر لم يكن كافياً لمواجهة التكاليف الباهظة للحرب.
وفي ذلك الوقت كان الجنرال "جورج واشنطن" يقف على الجبهة يراقب رجاله وهم يتضورون جوعاً بينما لا يمتلكون سوى الحد الأدنى من البارود لمواجهة الجيش البريطاني.
وهدد "واشطن" بالفعل بتسريح الجيش كلياً في حال عدم قيام الأمة ممثلة في الكونجرس بإيجاد طريقة لتجهيز ودعم القوات بشكل منتظم.
وفي مارس 1781 قرر الكونجرس إنشاء خزانة وطنية تمولها الولايات بحسب نسبة قيمة الأرض في كل ولاية، مع منحه الحق الحصري في سك النقود وتنظيم التجارة والاقتراض.
وبعد وضع البنية التحتية الأساسية، كان على الكونجرس أن يختار شخصاً ليكون مديراً للمالية، شخصاً يمتلك الخبرة التجارية والقدرة على ضبط التكاليف وإدارة الأمور المالية بحنكة في فترة معقدة للغاية.
وجاء التصويت بالإجماع: "روبرت موريس" هو أفضل اختيار ممكن لتولي هذه المهمة.
الهدف بأي طريقة
كان "موريس" رجلاً وطنياً، لكنه لم يكن متحمساً لفكرة الاستقلال والدخول في معركة فعلية مع بريطانيا العظمى معتقداً أن ذلك سيمثل خطراً على البلاد مع احتمالات ضعيفة للانتصار.
لكن عندما تم التوقيع على إعلان الاستقلال، فضّل "موريس" وضع رأيه الشخصي جانباً واتجه للعمل مع رأي الأغلبية ليصبح أحد الموقعين على إعلان الاستقلال وعضواً في الكونجرس القاري.
وبعد قرار اختياره مديراً مالياً للثورة قرر "موريس" قبول المنصب لكن بشرطين: تمكينه من اختيار موظفيه بحرية، والسماح له بالاحتفاظ بشبكة مصالحه التجارية.
استهل "موريس" عمله بإلغاء قانون الحظر الأمريكي ضد استيراد البضائع من الإمبراطورية البريطانية باعتبار "التجارة يجب أن تكون حرة تماماً"، بالإضافة إلى التعهد بحماية الملكية الخاصة.
اتجه الرجل سريعاً لتأسيس مصرف وطني يحمل اسم "مصرف أمريكا الشمالية" ليمثل ركيزة لنظام الدين العام، من خلال ملكية للمساهمين في أسهمه مع إدارة خاصة وتحكم حكومي في أصوله.
لكن المهمة الأكثر إلحاحاً تمثلت في توفير الطعام للجيش، حيث أمضى شهوراً في جمع الموارد والمضاربة الشخصية لتحقيق الربح نيابة عن الحكومة، بل وصل الأمر إلى استخدام نقوده الخاصة لشراء التجهيزات ودفع رواتب الجنود.
وتمكن "موريس" من إعادة تنظيم الخزانة وعمل على تأسيس دار لسك النقود، كما أن قبوله المنصب دفع فرنسا لاستئناف مدفوعاتها للدولة الوليدة، بالإضافة إلى إصداره أوراقاً نقدية بتوقيعه شخصياً فيما كان يعرف بـ"نقود موريس".
استخدام "موريس" سمعته وعلاقاته التجارية لتمويل القوات الأمريكية وإمداد الجيش بالأسلحة في إطار عمليات تهريب واسعة بعيداً عن أعين السلطات البريطانية في أوروبا والبحر الكاريبي.
وتسببت هذه العمليات غير الشرعية التي لجأ إليها الرجل لتمويل الحرب في وصفه في بعض المراجع التاريخية بـ"المحتال"، خاصة مع حقيقة تنظيمه لجنة سرية لتجارة الأسلحة مع عملاء أوروبيين.
وبالإضافة إلى الإمداد الحربي، كانت الوسيلة الوحيدة لتمويل الثورة هي الائتمان الشخصي لـ"موريس" بعد فشل العملة الأمريكية الوليدة، ما جعل الرجل بمثابة الممول الأول للدولة الجديدة.
لكن جهود الممول لإنشاء نظام ضريبي كان يراه ضرورياً لدعم الثورة والدولة بأكملها فشلت في الحصول على موافقة الولايات، خاصة بعد استسلام البريطانيين في "يوركتاون" وثقة الجميع في قرب النصر الذي لم يعد يحتاج لمزيد من التضحيات.
كانت آخر إسهامات "موريس" هي اقتراض 35 ألف دولار من أحد السماسرة لتفادي أزمة في الجيش ودفع جزء من أجور الجنود، وهي الأموال التي لم يحصل عليها بعد توقيع معاهدة السلام مع بريطانيا.
السقوط من أعلى
بعد نجاح الثورة وتأسيس الحكومة الأمريكية الأولى، تنحى "موريس" عن الحياة العامة واستقال من منصبه، مفضلاً الاهتمام بأعماله التجارية وثروته الطائلة.
ورغم أن الرئيس الأول للولايات المتحدة "جورج واشنطن" عرض عليه تولي منصب وزير الخزانة، فإن "موريس" رفض العرض وفضل العودة لأعماله.
لكن الرجل الذي كان يهتم طوال حياته بالتجارة والملاحة، تحول فجأة إلى التركيز الشديد على شراء الأراضي والتي كانت أسعارها تشهد صعوداً مستمراً.
امتلك الممول نحو 8 ملايين هكتار من الأراضي في مختلف أنحاء البلاد، وأصبح في غضون بضع سنوات أكبر مالك للأرض في الولايات المتحدة، لكنه تناسى نصيحته القديمة بـ"خطورة الرغبة في ألا يفوتك أي شيء".
دفعت هذه الرغبة المستعرة لامتلاك الأراضي "موريس" نحو الهاوية، مع تفاقم مشكلات ديونه وعدم وجود أموال سائلة بحوزته للسداد بالإضافة إلى تراجع أسعار الأرض بشكل حاد في فترة قصيرة.
وربما يبدو الأمر الأكثر إثارة للسخرية هو أن مصرف "أمريكا الشمالية" الذي أسسه "موريس" كان أول من رفع ضده قضية في المحاكم بسبب الديون.
ومع تزايد الديون وعجزه عن السداد، تم اعتقال الممول ومنقذ الدولة الأمريكية وإيداعه في سجن المعسرين، وهو سجن بدائي يقيم فيه المدين لفترة تكفي لجمع أقاربه وأصدقائه أموالاً كافية لسداد الدين.
لكن "موريس" اضطر للبقاء في السجن لمدة ثلاث سنوات كاملة مع صعوبة جمع الدين الكبير، يستقبل الزائرين الذين كان منهم "واشنطن" نفسه ويتذكر ثروته البائدة وسنواته في عالم التجارة والأعمال والسياسة.
وبعد إقرار قانون جديد للإفلاس أقنع الدائنين بتسوية ديونهم مع المدينين، غادر "موريس" السجن ليعيش حياة متواضعة قبل أن يتوفى في عام 1806 ليحمل ضريحه نقشاً بسيطاً حمل عبارة: "كان ممول الولايات المتحدة إبان الثورة".
المصادر: يو إس هيستوري – إن بي أر
كتاب: Forbes greatest business stories of all time
كتاب: Robert Morris: Financier of the American Revolution
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}