إذا قرر محامٍ لسبب ما أن يقوم بعملية جراحية لأحد المرضى، ما هي فرص نجاحها وخروج المريض منها سليماً؟، ليس احتمالاً كبيراً بالتأكيد.
لكن رغم بديهية هذا الاستنتاج، فإن عالم الاستثمار يشهد بشكل متكرر محاولات الكثير من الأشخاص الدخول في مجالات مجهولة تماماً بالنسبة لهم مع انتظار سراب الأرباح في النهاية.
الجهل يعني خسارة مؤكدة
الواقع أن تحقيق أرباح مالية في سوق الأسهم يعتبر أمراً صعباً حتى بالنسبة لمن يمتلكون معرفة وخبرة كبيرة في هذا المجال وتشعباته الكثيرة.
فمديرو شركات الاستثمار وإدارة الأصول والمحللون الماليون وغيرهم يحققون عادة نتائج متقلبة بين الخسائر تارة والمكاسب تارة أخرى، رغم أنهم أكثر معرفة بتفاصيل الشركات والقطاعات التي يعتادون التعامل فيها.
ومع اتساع نطاق الأصول المالية من السندات والأسهم والعملات والسلع وحتى العملات المشفرة وغيرها، فإن بعض المستثمرين قد يشعرون بالإغراء لامتلاك مراكز شرائية في فئات أصول لا يعلمون عنها الكثير، بحثاً عن ربح محتمل وسريع.
لكن إذا كان الخبراء في هذه الأصول يخسرون أحيانًا، فما هي فرص هؤلاء الذين لا يمتلكون معرفة تقريباً فيما يشترونه؟، غالباً لن تكون احتمالية جيدة.
ينسى البعض أحياناً أن شراء أسهم في شركة ما يعني فعلياً امتلاك حصة في الأعمال التي تقوم بها هذه المؤسسة، وبالتالي فإنه من المنطقي أن يمتلك الشخص فهماً قوياً لنشاطها.
وقرار شراء سهم شركة ما مثلاً يتطلب فهماً كبيراً لكيفية عمل هذه المؤسسة والقطاع الذي تتخصص فيه ووضعها المالي وغيرها من التفاصيل.
وبدون الفهم الكامل لما تضع فيه أموالك تتحول العملية من استثمار فعلي إلى مضاربة أو حتى مراهنة بحتة.
ويقول الملياردير الأمريكي "سيث كلارمان" إن المستثمرين الذين يقتصرون في التحرك على ما يعرفونه – رغم صعوبة ذلك - يمتلكون تفوقاً كبيراً على أي شخص آخر.
والصعوبة التي يتحدث عنها "كلارمان" تبرز في الرغبة المستمرة لدى الكثيرين لتحقيق أرباح سريعة، خاصة إذا شهدوا بالفعل صعوداً لهذا الأصل يدفعهم لمحاولة الاستفادة منه بدافع "الخوف من فقدان الفرصة".
ومن الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري قبل أزمة 2007 إلى العملات المشفرة بعد عقد من الزمن، دخل الآلاف من المستثمرين في عمليات استثمار لا يفهمونها جيداً بحثاً عن حلم الثراء السريع الذي انتهى بخسائر حادة.
لكن ربما تبدو فقاعة "الدوت كوم" أكبر مثال لأهمية التواضع والاعتراف بحقيقة ما نعرفه.
الالتزام قد ينقذك في النهاية
"وارن بافيت" كان مثالاً ناجحاً لهذه الرؤية المتواضعة والمبتعدة عن المشاركة فيما لا يعرفه بقوله: "لا تستثمر في أعمال لا تفهمها جيداً، كيف تتوقع تحقيق أرباح من أي شيء لا يمكنك استيعابه؟".
فمع تسارع فقاعة أسهم التكنولوجيا في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، كان "بافيت" واحداً من مجموعة محدودة للغاية من كبار المستثمرين الذين ابتعدوا تماماً عن المشاركة في هذا السوق.
وشهدت هذه الفترة تدافع الآلاف من المستثمرين على شراء أسهم شركات التكنولوجيا التي لا يحقق معظمها أي أرباح، خاصة هؤلاء الذين أثار الصعود المستمر للسوق طمعهم للمشاركة في "كعكة المكاسب".
لكن المستثمر الأمريكي الشهير رفض الدخول في أي من الأسهم المحققة لطفرات سعرية آنذاك، ملتزماً بمبدأه العتيد بـ"عدم الاستثمار فيما يجهل"، حتى مع انخفاض سهم شركته "بيركشاير هاثاواي" بنحو 51% في الفترة بين يونيو 1998 وحتى مارس 2000.
ورغم هبوط صافي ثروته بأكثر من 10 مليارات دولار جراء هبوط سهم "بيركشاير" التي فضل المستثمرون الابتعاد عنها لصالح شركات تكنولوجية تحقق طفرات متواصلة، فإن "بافيت" واصل نهج الالتزام.
بالطبع يعلم الجميع كيف انتهت فقاعة "الدوت كوم" سريعاً بانهيار حاد لمؤشر "ناسداك" واختفاء شركات كاملة وخسائر بمليارات الدولارات للمستثمرين، لكن "بافيت" خرج سالماً من الأزمة بفضل مبدأ "الابتعاد عما يجهل".
وبصرف النظر عن فكرة هبوط أسعار بعض الأسهم لدرجة قد تجعلها مغرية للشراء، أو ارتفاعها بوتيرة تثير غريزة الخوف من فقدان الفرصة، فإن الدرس واضح للجميع: إذا كنت لا تعرفه جيداً، ابتعد عنه.
وينصح "بافيت" بضرورة قيام أي مستثمر بالإمساك بالقلم وخط أسباب رغبته في شراء السهم قبل الدخول فيه بالفعل.
وإذا كان دافعك لشراء السهم يقتصر على توقع صعوده مستقبلاً فمن الأفضل عدم الاستثمار فيه نهائياً، لأن حتى أفضل المستثمرين غير قادرين على توقع حركة السوق.
قرار الاستثمار يجب أن ينبع من فكرة شراء ما تفهمه جيداً وترى أنه يمتلك قيمة على المدى الطويل.
المعرفة تمحو الخطر
نستمر مع "بافيت" الذي يقدم لنا درساً جديداً هذه المرة، لكنه كان بعيداً عن النجاحات التي اعتاد تحقيقها بنظرة ثاقبة.
ويعترف "حكيم أوماها" بمزيج من الحزن والسخرية بأنه فقد فرصة لتحقيق أرباح ضخمة؛ بسبب رفضه الاستثمار مبكراً في "أمازون" و"جوجل"، وهما السهمان اللذان حققا لاحقاً مكاسب كبيرة بالفعل.
لكن الرجل يدافع عن وجهة نظر حينها بقوله إنه لم يكن يفهم جيداً طريقة عمل هذه الشركات التكنولوجية، وبالتالي فضّل الابتعاد تنفيذاً لرؤيته الصارمة بالاستثمار فيما يعرفه فقط.
هل يكفي هذا السبب لتبرير الخطأ الكبير؟، يعتقد "بافيت" أن الإجابة هي لا، لأنه كان يمتلك طرقاً كثيرة لطرح أسئلة أو التعليم الذاتي، لكنه لم يفعل ذلك.
وهذا هو الدرس الآخر الذي تطرحه قصة الملياردير الأمريكي، لا تدخل في استثمار لا تعرفه بكل تأكيد، لكن أيضاً لماذا لا تحاول فهمه ثم اتخاذ قرار بدلاً من تجاهل الأمر برمته؟.
وظيفتك كمستثمر هي أن تعترف لنفسك قبل الآخرين بدائرة اختصاصك والقطاعات أو فئات الأصول التي تعرفها جيداً، ثم البقاء ضمن تلك الدائرة مهما كانت المغريات.
لكن أيضاً هذا لا يعني أنه لا يجب على المستثمر الخروج من منطقة الراحة الخاصة به نهائياً، لأن توسيع آفاق الشخص هو العامل الأهم لدفعه للتعلم المستمر.
فإذا كنت تنوي الاستثمار في مجالات جديدة وغير معتادة بالنسبة لك، فإنه من الضروري أن تتمعن في التفاصيل الدقيقة مع الدخول بمبلغ مالي بسيط في البداية، واستخدام استراتيجية للحد من الخسائر.
ومع ضرورة الاعتراف بمجال خبراتنا وقدرتنا وتخصصنا، فإنه من المفيد أيضاً السعي للتعلم الإضافي لرصد إمكانية وجود فرص أخرى.
ويجب أن نتذكر أن الخروج غير المخطط له من الحارة الخاصة بنا على الطريق السريع قد يعرضنا لخطر التصادم القاتل، لكن إذا رغبت في تغيير حارتك يجب أن تنظر حولك جيداً لتفادي المخاطر المحتملة.
المصادر: أرقام –سي إن بي سي –يو إس نيوز
كتاب: Big Mistakes:The Best Investors and Their Worst Investments
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}