قبل ما يزيد على عام ونصف وتحديدًا في الثاني والعشرين من مايو 2019 أُدرجت شركة المراكز العربية في السوق المالية السعودية "تداول" ليبدأ تداول أسهمها لأول مرة.
مساحة رحبة للنمو
لفت هذا الإدراج نظر الكثير من المهتمين إلى حجم الاستثمار في هذا لقطاع حيث يبلغ نصيب الفرد في السعودية (وتحديدًا في المدن الأربعة الرئيسية: الرياض وجدة ومكة ومنطقة الدمام الحضرية) من المساحات القابلة للتأجير بمراكز التسوق حوالي 0.4 متر مربع، وهذا لا يزال أقل بكثير من المعيار الدولي الذي حدده "المجلس الدولي لمراكز التسوق" ("ICSC") والبالغ 1.1 متر مربع لكل فرد.
وينشط في هذا القطاع كثير من الشركات بينها شركة "المراكز العربية" بحصة سوقية تقترب من 16%، لم ينجُ كغيره من القطاعات الاقتصادية من تداعيات فيروس كورونا، ولكنه في الوقت ذاته قد يكون من أقدر القطاعات على تخطي التحديات التي شكلتها الأزمة والاستمرار في النمو بوتيرة أسرع من السابق.
تأقلم مع تغير سلوك المستهلك
في السنوات الأخيرة أصبح التسوق بالمراكز والمولات التجارية نشاطًا منتشرًا بشكل ملحوظ يقوم به الملايين من الناس كل يوم، وذلك رغم النمو الكبير الذي شهدته حركة التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت التي ربما أثرت سلبًا على متاجر التجزئة التقليدية ولكنها تجد حتى الآن صعوبة في زحزحة مراكز التسوق الكبيرة من مكانها، وهذا ربما لأن الأخيرة توفر للمستهلك ما لا تستطيع الأولى توفيره.
فبفضل المولات والمراكز التجارية أصبح التسوق نشاطًا ترفيهيًا أكثر منه تجاريًا، وبدأ الناس يفكرون في الذهاب إلى تلك المراكز لا بغرض الشراء فقط وإنما بغرض المرح وقضاء وقت الفراغ والاستمتاع بالتجربة الترفيهية والاجتماعية التي توفرها هذه الأماكن لروادها، وهذه مساحة لا يستطيع لا التجار الإلكترونيون ولا المتاجر التقليدية منافسة مراكز التسوق فيها.
بعبارة أخرى، إن الذهاب إلى مراكز التسوق التي أصبحت بشكل كبير جزءًا من أسلوب الحياة المعاصر يحقق للمستهلك أغراضًا أكبر بكثير من مجرد الاستهلاك العادي، حيث إن أغلب رواد تلك المراكز يرغبون في كل مرة يذهبون فيها الاستمتاع بالتجربة المتكاملة والمصممة بعناية من قبل إدارة هذه المراكز والتي تشمل دور السينما، المطاعم والكافيهات الراقية، صالات الترفيه بتنوع أشكالها، المراكز الرياضية، وصالونات التجميل.
وقد أثبتت الكثير من الدراسات أن الجانب الترفيهي لتجربة التسوق التي توفرها المولات والمراكز التجارية له تأثير إيجابي على عدد زائري هذه الأماكن وطول المدة التي يقضونها هناك، وبالتبعية على إيراداتها وأرباحها. وهذا يعني أن مراكز التسوق تستفيد بشكل كبير من محدودية خيارات الترفيه والتواصل الاجتماعي غير الإلكترونية لدى قطاعات واسعة من الناس.
مؤخرًا أصبح التسوق في المركز التجاري نشاطًا اجتماعيًا يقوم به أفراد العائلة معًا، ومهما اختلفت وتفاوتت أعمار العائلة الواحدة فليس من الصعب أن يجد كل فرد منها ما يثير اهتمامه ويشبع حاجته في مراكز التسوق التي تحرص على إرضاء الجميع بما في ذلك الأطفال، وهذا هو سبب نجاح واستمرار صناعة مراكز التسوق منذ ظهورها وحتى اليوم.
أزمة كورونا .. خطوة للخلف أم دفعة للأمام؟
الاعتقاد السائد بين عدد لا بأس به من الناس حاليًا، هو أن الدفعة الكبيرة التي حصل عليها التسوق عبر الإنترنت خلال شهور وباء كورونا قضت أو في طريقها لتقضي على مستقبل المراكز والمجمعات التجارية التي لها وجود مادي على الأرض، ولكن هذا في الواقع تصور قاصر وغير دقيق لحقيقة الوضع في السوق من ناحية ولنفسية وأذواق المستهلكين من ناحية أخرى.
صدق أو لا تصدق، لقد خلق الوباء فرصًا جديدة لمراكز التسوق رغم الضغوط غير المسبوقة التي تعرضت لها على مدار الشهور الماضية، ولكن تلك الفرص تأتي معها تحديات كبيرة لابد من تجاوزها أولًا. بعبارة أخرى، يحتاج أصحاب المراكز التجارية الآن أكثر من أي وقت مضى إلى تسريع خططهم وتجريب نماذج أعمال جديدة والعمل بجدية وإبداع.
ثلاثة تغييرات
بشكل أساسي توجد هناك ثلاث تغييرات مهمة يجب أن يتبناها أصحاب المراكز التجارية بشكل واضح إذا أرادوا منح المستهلكين أسبابًا قوية للعودة إلى تلك المراكز والمجمعات بوتيرة وحماس أكبر مما كان عليه الحال قبل مرحلة كورونا، وإذا رغبوا كذلك في الحفاظ على تدفقاتهم النقدية وموقعهم في السوق أمام منافسيهم المتواجدين على الإنترنت.
لماذا يذهب الناس إلى مركز التسوق من الأساس؟
التغيير الأول: المهم الذي يجب أن تنتبه إليه إدارة المراكز التجارية هو تطوير مكانتها وصورتها كوجهة اجتماعية. في السنوات القادمة لا يسع مراكز التسوق والمجمعات التجارية سوى أن تصبح وجهة متعددة الأغراض للمستهلك، تقدم لهم أنشطة ترفيهية واسعة النطاق، بالإضافة إلى خدمات أخرى مختلفة.
في ظل اتجاه العديد من الدول إلى رفع القيود التي تم فرضها في إطار محاولة احتواء فيروس كورونا، من المرجح أن يتوق الكثير من الناس إلى مزيد من التفاعل الاجتماعي الذي حرموا منه خلال الفترة الأخيرة وهو ما يستطيع أن يوفره المركز التجاري. وبالتالي لم يعد بإمكان هذا المركز أن يعول على تسوق المستهلكين الراغبين في شراء الضروريات اليومية، لأن أغلب هذه الضروريات يستطيع الناس شراءها من المتاجر القريبة منهم.
الناس تذهب إلى مراكز التسوق لأنها توفر لهم تجربة لا يمكنهم العثور على مثلها على الإنترنت أو في أي مكان آخر. هذه التجربة تبدأ من لحظة قدوم المستهلك إلى المركز التجاري ومحاولته إيجاد مكان لركن سيارته، وتنتهي بخروجه من المكان. طوال هذه المدة إذا لم يتمكن المركز التجاري من توفير تجربة رائعة للمستهلك فعلى الأغلب لن يعود ما دام باستطاعته شراء نفس الأشياء من على الإنترنت.
ثاني هذه التغييرات وأهمها على الإطلاق هو ضرورة احتضان التكنولوجيا والتواجد على الإنترنت. للتسوق عبر الإنترنت مميزات، وللتسوق من المتاجر الموجودة في المراكز التجارية مميزات أخرى، والمستهلك في أغلب الأحيان يريد الاثنين معًا. يريد أن يرى المنتج على الإنترنت ليتعرف عليه ويقارنه مع منتجات أخرى يوفرها المنافسون، وفي نفس الوقت يرغب في أن يلمس المنتج بيديه قبل أن يشتريه.
في استطلاع للرأي أجراه المجلس البريطاني لمراكز التسوق في عام 2015، أشار 85% من المتسوقين إلى رغبتهم في لمس المنتجات والإحساس بها قبل اتخاذ قرارات الشراء، بينما قال 71% منهم إنه إذا كان هناك منتج متاح على الإنترنت وفي ذات الوقت متاح في متجر قريب منهم فإنهم سيفضلون شراءه من المتجر القريب منهم.
في مجال التسوق توجد هناك ظاهرة تسمى "showrooming" وهي ممارسة يقوم خلالها المستهلك بالبحث عن منتج معين يريده في المتاجر ومراكز التسوق قبل أن يشتريه من على الإنترنت. ولكن في السنوات الأخيرة خفت نجم هذه الظاهرة لصالح ظاهرة معاكسة أكثر شيوعًا وهي الـ"webrooming" وتعني قيام المستهلك بالبحث عن المنتج على الإنترنت ثم شرائه من متجر حقيقي.
شركة "آبل" الأمريكية مثلًا تفهم هذا وتعيه جيدًا، فهي بالنهاية تستطيع بيع منتجاتها عبر الإنترنت فقط، ولكنها حريصة على نشر متاجرها الحقيقية في جميع أنحاء العالم لأنها ببساطة تدرك أن المستهلك لا يتسوق فقط من أجل الشراء بأرخص الأسعار، وإنما يتسوق ليشتري شيئًا آخر يسمى التجربة، وهذه هي النقطة التي تستطيع من خلالها مراكز التسوق التفوق على التجار الإلكترونيين.
الشراء من مراكز التسوق والشراء عبر الإنترنت هما تجربتان مكملتان لبعضهما بالنسبة للمستهلك، وفي حين تحتاج مواقع الإنترنت إلى استثمارات ضخمة من التواجد على أرض الواقع كما تفعل "أمازون" مؤخرًا، لا تحتاج مراكز التسوق والمتاجر الموجودة بها سوى استثمار مبلغ قليل من المال في بناء موقع إلكتروني يتاح عليه كل المنتجات المعروضة للبيع.
وفي نفس السياق، تحتاج مراكز التسوق إلى استخدام الأدوات الرقمية والتكنولوجية الحديثة مثل تقنيات الواقع المعزز وتطبيقات الجوال من أجل زيادة الإنتاجية والكفاءة إلى أقصى حد ممكن من ناحية، ومن أجل خلق تجربة ديناميكية وجذابة ومثيرة جدًا لاهتمام المستهلكين الذين يبحثون دائمًا عن وسائل الراحة من ناحية أخرى.
كيف أصبح الأمان والسلامة أولوية الجميع؟
ما سبق يأخذنا للتغيير الثالث الذي يجب أن تتبناه المراكز التجارية بشكل دائم خصوصًا بعد ما مر به العالم أجمع خلال أزمة كورونا وهو يتعلق بسلامة وأمان المستهلكين وراحتهم في الوقت ذاته. لقد غير "كوفيد-19" توقعات المستهلكين كما زاد من مخاوفهم بشأن صحتهم وسلامتهم وهو ما جعلهم أكثر قلقًا بشأن زيارة مراكز التسوق المغلقة.
ما يجب أن تعيه إدارات المراكز التجارية هو أنه يوجد اليوم لدى أغلب المتسوقين عواطف متعارضة، فمن ناحية يريدون أن يدخلوا ويخرجوا من المكان بسرعة وبأقل قدر ممكن من الاحتكاك حفاظًا على سلامتهم، ومن ناحية أخرى يرغبون أن يكونوا اجتماعيين متفاعلين مع بعضهم البعض. محاولة إرضاء المستهلك من الجهتين تشكل تحديا صعبا بالنسبة لمراكز التسوق ولكن هذه هي الحال.
باختصار، إن توفير بيئة آمنة وخالية من الاحتكاك وفي نفس الوقت بها قدر محسوب من التفاعل والاجتماعية هي مفتاح إعادة الناس إلى مراكز التسوق في الشهور القادمة. ومراكز التسوق التي ستستثمر في الأدوات والتطبيقات التي بإمكانها جعل تجربة المستهلك أكثر أمانًا وسلاسة هي التي ستكون أسرع من يستفيق من تداعيات أزمة كورونا.
ولكن أثناء سعيهم لمعايير عالية للسلامة والنظافة، ربما يجد أصحاب المتاجر والمراكز التجارية أنفسهم مضطرين لتحمل أعباء تكاليف إضافية قد تؤثر على أرباحهم النهائية، وحينها سيكون التحدي أمامهم هو تحديد أي التكاليف يجب أن يتحملوها هم وأيها يجب تمريره للمستهلك.
في النهاية، ربما توجد نظريات كثيرة وتوقعات مختلفة حول مستقبل مراكز التسوق، ولكن هناك شيئا واحدا مؤكدا: صناعة مراكز التسوق على وشك أن تشهد ثورة، ومراكز التسوق الناجحة في 2021 على الأغلب لن تكون هي التي لا تزال تعمل بالمفاهيم القديمة.
المصادر: أرقام– ذا بوسيبل
دراسة: The future of the mall Building a new kind of destination for the post-pandemic world
دراسة: The Future of the Shopping Center Industry
دراسة: KSA Market Summary Q3 2020
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}