"أوهن من بيت العنكبوت".. هذا ربما هو أفضل وصف لحال الاقتصاد الصيني اليوم، بعد ما كشفته أزمة إمبراطورية العقارات الصينية "إيفرجراند" في الأيام الماضية من هشاشة وضعف يعتريان القطاع الذي صعدت بكين اقتصاديًا على كتفيه خلال العقدين الأخيرين: قطاع الإسكان. القطاع الذي أصبح عبئًا على الاقتصاد الصيني بعدما كان محركًا دافعًا له.
حين قال "جورج سوروس" في مقال نشره في "فاينانشيال تايمز" في نهاية أغسطس الماضي العبارة التالية: "زعيم الصين، شي جين بينج اصطدم بالواقع الاقتصادي.. كل شيء الآن يقترب من نهايته. إيفرجراند مثقلة بالديون وتخلفها عن سداد ديونها يمكن أن يتسبب في انهيار الاقتصاد" رأى البعض أن الملياردير الأمريكي صاحب الـ91 عامًا يبالغ في تشاؤمه!
ولكن التطورات الحاصلة في الأيام الأخيرة، تشير إلى أن كلام "سوروس" لم يكن أبدًا نتيجة مبالغة أو تشاؤم، وإنما نتيجة إدراك من الرجل لعمق ورطة القطاع العقاري الصيني الذي يضع فيه ثلاث أرباع سكان الصين ثرواتهم، ويحمل على كاهله عبء فقاعة إسكان تتجاوز قيمتها حاجز الـ52 تريليون دولار.
اليوم، "إيفرجراند" هي حديث الساعة، حيث يهتم العالم من شرقه لغربه بمعرفة تطورات أزمتها التي طفت على السطح وفاحت رائحتها بعد إعلانها منتصف الشهر الجاري عن احتمال تخلفها عند سداد المستحق من ديونها في موعده، ولكن لسبب ما غير معروف يبدو أن الجميع لا يركز إلا على ذيل القصة فقط. ما يحدث حاليًا هو أقل ما يجب أن يثير اهتمام أي أحد، هناك الأخطر والأهم!
الكل بات اليوم يعرف المعلومة التالية: "إيفرجراند" لديها التزامات بأكثر من 300 مليار دولار وعاجزة عن سداد ديونها"، وبالتالي لا فائدة من تكرارها. الآن، الأسئلة التي لا يسألها أحد هي: كيف وصلت "إيفرجراند" إلى هذه الحال؟ وكيف أصبحت أصلًا مدينة بهذا المبلغ الضخم؟ وأين ذهبت هذه المليارات؟
أين كانت الحكومة الصينية بينما كانت الشركة المأزومة تقترض بلا حساب من البنوك في الداخل والخارج وحتى من عملائها وموظفيها المساكين رغمًا عنهم؟ أما السؤال الأهم على الإطلاق فهو: كيف أصبح قطاع الإسكان نقطة ضعف الاقتصاد الصيني التي قد يؤتى منها في أي لحظة؟
الصين التي لا تعرفها!
في كل مرة تحكى فيها قصة الصعود الاقتصادي الصيني المذهل خلال الثلاثين سنة الأخيرة، يركز الخبراء والمحللون ومن ورائهم وسائل الإعلام على الإصلاحات والسياسات الاقتصادية الداعمة للسوق الحرة والتصدير، ومشاريع البنية التحتية الضخمة، والاستثمارات الكبيرة التي تم ضخها في البلاد من الداخل والخارج، ورغم أهمية كل ذلك ومحوريته، إلا أن هناك زاوية خطيرة جدًا وإن كانت أقل شهرة لا ينتبه إليها كثيرون، وهي الكيفية التي أثرت بها السياسات الاقتصادية الصينية على سوق الإسكان، المسؤول وحده عن ثلث نموها الاقتصادي.
تمتلك الصين اليوم أكبر سوق إنشاءات في العالم من حيث المساحة المبنية، وكل عام تزيد هذه المساحة بواقع ملياري متر مربع كمساحة إجمالية للطوابق. هذا يعادل تقريبًا نصف المساحة التي يبنيها العالم أجمع، كما أنه بالتأكيد أكثر مما تحتاج إليه الصين فعليًا. والنتيجة اليوم هي أن 20% من الوحدات السكنية المبنية في الصين يسكنها الأشباح!
الوضع الآن في الصين كالتالي: 65 مليون شقة فارغة، بإمكانها حرفيًا استيعاب سكان عدة دول، ومبيعات متراجعة بنسب غير مسبوقة، ومطورون عاجزون عن بيع ما تم بناؤه أو استكمال ما تم بيعه للناس في صورة تصاميم على الورق، وقطاع إسكان مدين بتريليونات من الدولارات لا أحد يعلم كيف أو متى ستسدد، وحكومة حائرة تفكر في الطريقة المثلى لتلافي انفجار فوضوي لفقاعة إسكان هائلة، ومواطنون قلقون على مصير ثرواتهم التي وضعوا الجزء الأكبر منها في قطاع الإسكان.
لفهم الكيفية التي آلت بها الأمور في قطاع الإسكان الصيني إلى هذا الوضع المأزوم، نحتاج للرجوع أكثر من 50 عامًا للوراء.
كيف بدأ كل شيء؟
قبل عام 1978 اتبعت الحكومة الصينية سياسة تأميم الإسكان الخاص ليصبح قطاع الإسكان بالكامل تحت تصرف الدولة وذلك في إطار عملها بنظام التخطيط المركزي. في ذلك الوقت، كانت معظم الأراضي مملوكة للحكومة، والتي سيطرت بشكل مباشر على إنشاء وتمويل وتخصيص وتشغيل وتسعير المساكن في مختلف المدن الصينية.
كانت الحكومة تعطي عددًا كبيرًا من الوحدات للموظفين العاملين بالقطاع الحكومي مقابل إيجارات زهيدة جداً، لم تكن تغطي حتى تكلفة الصيانة ناهيك عن بناء المساكن نفسها. ولكن الحكومة لم ترق لها عواقب سياساتها الاشتراكية، حيث انخفض الاستثمار في قطاع الإسكان وأصبح هناك نقص مزمن في المتاح من الإسكان الحضري، كما انخفضت جودة المساكن الحكومية بسبب ضعف مردودها المادي.
منذ عام 1978، وعندما بدأت الصين الانتقال من الاقتصاد المخطط مركزيًا إلى نظيره القائم على السوق، أصبح إصلاح قطاع الإسكان على رأس أولويات الحكومة المركزية الصينية. وكانت أول خطوات الإصلاح، إعادة المساكن الخاصة المؤممة إلى أصحابها السابقين، وذلك قبل أن تشجع الحكومة مؤجري وحداتها السكنية العامة على تقاسم تكاليف الإسكان من خلال زيادة الإيجارات التي يدفعونها بشكل تدريجي، وفي نفس الوقت سمحت للقطاع الخاص بالمشاركة في بناء المساكن وتطويرها.
ابتداءً من عام 1998، انطلقت المرحلة الأهم في تاريخ قطاع الإسكان الصيني. في ذلك العام، ألغت الحكومة نظام الإسكان المدعوم والقائم على الرعاية الاجتماعية، ودشنت نظامًا قائمًا على السوق مهمته تلبية الطلب على الإسكان وفق قواعد السوق الحرة وبعيدًا عن تدخل الحكومة. ومن هذه اللحظة، تحولت طبيعة الإسكان من خدمة تقدمها الحكومة لمواطنيها كجزء من إجراءات الرعاية الاجتماعية إلى سلعة مملوكة للقطاع الخاص بوسعه المتاجرة بها في السوق وبيعها لمن يملك ثمنها.
"إيفرجراند" .. صعود صاروخي!
شجع الوضع الجديد عدداً كبيراً من الشركات الحكومية والخاصة على الدخول إلى سوق الإسكان طمعًا في تحقيق أرباح كبيرة، خصوصًا بعد أن بدأت الحكومة في تشجيع مواطنيها على امتلاك منازل خاصة بهم، في إطار استراتيجية وطنية تهدف لتعزيز النمو الاقتصادي، عبر بوابة الاستثمار الكثيف في القطاع العقاري.
في هذا الوقت لم تجد الشركات الصينية أي عائق أمام التوسع بوتيرة متسارعة في السوق العقاري، خصوصًا في ظل تساهل سياسات الحكومة في عمليات تخصيص وتأجير الأراضي التي كانت حصيلتها تذهب إلى خزينة الحكومات المحلية في كل إقليم بالصين. في الفترة ما بين 1999 و2007، زادت مساحة الأراضي الحكومية المبيعة بمعدل سنوي قدره 22.8%، وخلال نفس الفترة زادت قيمة الرسوم المحصلة من قبل الحكومات المحلية مقابل تأجير هذه الأرضي بمعدل سنوي بلغ 31.9% في المتوسط.
في وسط هذه الظروف، ظهرت شركة العقارات الصينية الشهيرة "إيفرجراند". في عام 1996، أسسها رجل الأعمال الصيني "هوي كا يان" تحت اسم "هينجدا جروب" قبل أن يغير ذلك الاسم إلى اسمها الحالي. مستفيدة من التسهيلات الحكومية الكبيرة التي وفرتها الحكومة للمطورين العقاريين بداية من أواخر التسعينيات، توسعت "إيفرجراند" بسرعة الصاروخ، في ظل اطمئنانها التام لتوافر الدعم الائتماني من البنوك الصينية، لتصبح أكبر مطور عقاري سكني بالصين في خلال 10 سنوات.
بعد 13 سنة من تأسيسها، وتحديدا في أكتوبر 2009 طرحت "إيفرجراند" جزءاً من أسهمها للاكتتاب العام الأولي في بورصة هونج كونج مقابل 3.5 دولار هونج كونج للسهم الواحد، وهو ما مكنها من جمع ما يعادل أكثر من 720 مليون دولار أمريكي من المكتتبين على السهم. في ذلك الوقت كانت "إيفرجراند" مدينة بالفعل للبنوك، وبلغ حينها إجمالي الديون المستحقة عليها خلال الـ12 شهراً التالية 922 مليون دولار.
حصيلة الاكتتاب العام الأولي، إلى جانب 435 مليون دولار في خزينة الشركة، و381.5 مليون دولار هي قيمة قرض أمريكي بشروط مرهقة، كانت هذه المبالغ مجتمعة من شأنها تغطية الدفعات المستحقة من ديون الشركة في المدى القصير، وكان من الممكن أن يفيض جزء من هذا المبلغ تستخدمه الشركة في زيادة حجم محفظتها من الأراضي، وذلك في حال تمكنت من تجديد بعض ديونها.
ولكن كان لرئيس الشركة رأي آخر. بعد فترة وجيزة من طرحها للاكتتاب العام بدأت "إيفرجراند" تقترض من البنوك بأسعار فائدة مرتفعة للدخول في أنشطة وأعمال لا علاقة لها بمجال عملها الرئيسي. على سبيل المثال، اشترت الشركة في عام 2010 نادياً لكرة القدم، وذلك قبل أن تدخل لاحقًا في مجالات أخرى مثل الأغذية والمياه المعبأة والإنتاج الموسيقي ومؤخرًا السيارات الكهربائية. كل هذا تم تمويله بالديون، التي تجاوز إجماليها في غضون 5 سنوات من الاكتتاب 50 مليار دولار.
من 50 مليار دولار في منتصف 2014، إلى 95 مليار دولار في نهاية 2015، ثم 274 مليار دولار بنهاية 2018، وأخيرًا 310 مليارات دولار بحلول نهاية 2020. هكذا تطور حجم ديون "إيفرجراند" خلال السنوات الأخيرة، وهي الأموال التي حصلت على الجزء الأكبر منها من البنوك. أصبحت ديون الشركة مثل كرة الثلج التي تزداد حجمًا كلما دفعت للأمام. كل ما كانت تفعله "إيفرجراند" في السنوات الأخيرة هو محاولة الهرب دون جدوى من مصيرها الذي بات محتومًا.
"إيفرجراند" تنتهك الخطوط الحمراء الثلاثة!
أغسطس 2020 كان بالنسبة للشركة بداية نهاية كل شيء. في ذلك الشهر، تيقنت إدارة "إيفرجراند" من أن سياسات الحزب الشيوعي الاقتصادية كما كانت هي السبب في صعودها وازدهارها، ستكون على الأرجح هي سبب سقوطها بعد أن تغيرت أولويات الحزب. الرئيس الصيني بدأ يشعر بالخطر من قنبلة الديون الهائلة لقطاع الإسكان التي قد تنفجر في وجهه هو وحكومته في أي وقت، وقرر إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لو على جثة "إيفرجراند".
في أغسطس من العام الماضي، اجتمع مسؤولو كل من بنك الشعب الصيني وزارة الإسكان الصينية مع أكبر المطورين العقاريين في البلاد بما فيهم "إيفرجراند"، ليخبروهم بملامح السياسة الجديدة التي ستنتهجها الحكومة تجاه قطاع الإسكان في الفترة القادمة. كان العنوان العريض لهذا اللقاء هو "الخطوط الحمراء الثلاثة" التي باتت ترسم حدود قطاع الإسكان، والتي سيعاقب من يتجاوز أي منها.
وهذه الخطوط كانت كالتالي، الخط الأول هو ألا تتجاوز التزامات المطور العقاري 70% من قيمة أصوله. وكان الخط الثاني هو أن يكون صافي الديون الشركة أقل من حقوق الملكية لديها، أما الخط الثالث والأخير فهو أن تغطي حيازات الشركة من الكاش قيمة ديونها قصيرة الأجل بنسبة 100% على الأقل.
وكانت العواقب كالتالي، المطور الذي يتجاوز الخطوط الثلاثة، لن يسمح له باقتراض يوان واحد، أما من يتجاوز خطين، فسوف يسمح له بأن يقترض سنويًا ما يعادل 5% من إجمالي ديونه الحالية كحد أقصى، وترتفع هذه النسبة إلى 10% إذا تم تجاوز خط واحد، فيما تصل إلى 15% سنويًا لسعيد الحظ الذي لا يتجاوز أياً من هذه الخطوط.
لسوء حظ "إيفرجراند" كانت الشروط الثلاثة لا تنطبق عليها، وبالتالي أصبحت من وجهة نظر الحكومة متجاوزة للخطوط الحمراء الثلاثة، وبناءً عليه توقفت البنوك الصينية عن إقراض الشركة اعتبارًا من بداية 2021. ومن هذه اللحظة بدأ الانهيار المتسارع للشركة، ولم ينفعها حرقها لأصولها بأسعار زهيدة جدًا أو إجبار موظفيها على إقراضها تحت التهديد بخفض رواتبهم.
بداية الانهيار
في منتصف سبتمبر الجاري، أعلنت "إيفرجراند" أنها تواجه مخاطر التخلف عن سداد ديونها في موعدها، وسط تراجع مبيعات العقارات، كما أوضحت أن شركتين تابعتين لها فشلتا في تسديد التزامات بقيمة 145 مليون دولار في الموعد المحدد، لينهار سعر سهمها على الفور إلى مستويات غير مسبوقة، وتسود حالة من الذعر وسط المستهلكين المتعاقدين على أكثر من 1.6 مليون وحدة سكنية من المفترض أن الشركة تعمل على تطويرها.
أمس الخميس كانت "إيفرجراند" على موعد مع سداد دفعة من ديونها المستحقة تبلغ 83.5 مليون دولار، ولكن لم تعلن الشركة مصير تلك الدفعة، كما لم تبلغ الدائنين الذين من المفترض أن تدفع لهم هذا المبلغ بأي شيء. هناك حالة من الغموض تسيطر على المشهد حتى الآن، ولكن أغلب الظن هو أن الشركة تخلفت عن سداد الدفعة.
لو تأكد تخلف "إيفرجراند" عن سداد هذه الدفعة خلال الساعات القادمة، فهذا معناه أن الحكومة الصينية تستبعد حتى الآن خيار التدخل من أجل إنقاذ الشركة، وهذا أمر مفهوم بالنظر إلى أن الحكومة تخشى أن ينظر باقي المطورين العقاريين إلى تدخلها لإنقاذ "إيفراجراند" كرسالة لهم بأن يفعلوا ما يحلوا لهم مطمئنين بأن الحكومة ستدعمهم إذا ساءت الأمور. "إيفرجراند" ستكون عبرة على الأرجح والحكومة تريد أن يكون انهيارها رسالة لكل الأطراف، بما في ذلك المطورون والبنوك وحتى المستهلكون أنفسهم.
ولكن في الوقت نفسه، لن تترك الصين "إيفرجراند" تنهار بشكل فوضوي، بل على الأرجح سيكون الأمر أشبه بانهيار مدار، ستحرص الحكومة على أن يتم بأقل الأضرار سواء للمستهلكين أو لسوق الإسكان الذي ترتبط به 78% من ثروات الأسر الصينية، وهو ما يجعل المهمة أصعب من تفكيك قنبلة نووية، حيث إن أي خطأ ولو بسيط في إدارة هذه الأزمة من شأنه أن يهدد استقرار قطاع الإسكان الصيني الهش والذي تنهار بانهياره معجزة الصين.
وما يهدد الصين يهدد بقية العالم، ولهذا يحبس العالم أنفاسه بينما يراقب تطورات أزمة "إيفرجراند"، خوفًا من أن تؤدي إلى تفجير قطاع الإسكان الهش أصلًا، لأن هذا لو حدث سيعني تدمير الجزء الأكبر من ثروات الصينيين وسيؤثر بالتبعية على إنفاقهم الاستهلاكي. لا أحد يريد أن يرى العالم بدون إنفاق المستهلكين الصينيين!
أخيرًا، يمكننا القول إن "إيفرجراند" هي أقل مشاكل قطاع الإسكان الصيني، فهي في الحقيقة مجرد قمة جبل الجليد، فهناك تحت السطح قنبلة قيمتها 52 تريليون دولار تحتاج الصين من أجل تفكيكها للكثير من الحكمة والكثير جدا جدا من الحظ.
المصادر: أرقام – بلومبرج – نيويورك تايمز – فايناشيال تايمز – وول ستريت جورنال – رويترز
كتاب: China's Housing Reform and Outcomes
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}