لقد حظي الهيدروجين الخالي من الكربون الناتج عن طريق تقنية التحليل الكهربائي للمياه التي تعمل بالطاقة المتجددة، باهتمام غير مسبوق في جميع أنحاء العالم؛ إذ يعد حلًّا بديلًا بوصفه أحد مصادر الطاقة النظيفة، حيث يقلل من التأثيرات المناخية الضارة للاقتصاد العالمي الحالي القائم على الوقود الأحفوري. ومن بين التحديات العديدة التي تواجه الدول في سعيها للتحول إلى الاقتصاد القائم على الهيدروجين، تأتي في المقدمة التكلفة العالية نسبيًّا لإنتاجه، وكذلك النقص في البنية التحتية التقنية، ونقص التعرض لأشعة الشمس والرياح، ونقص الموارد الطبيعية الرئيسية.
على المستوى العالمي يبلغ الطلب الحالي على الهيدروجين حوالي 120 مليون طن سنويًّا؛ أي ما يقرب من 70 مليون طن من الطلب العالمي الحالي على الهيدروجين النقي المستخدم في إنتاج الأمونيا وتطبيقات تكرير النفط. يستهلك الوقودُ الأحفوري المرتبط باحتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه، أقلَّ من 0.7٪ من إنتاج الهيدروجين الحالي، أو من الطاقة المتجددة في جميع أنحاء العالم؛ ومن ثم يعد إنتاج الهيدروجين مسؤولًا عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحوالي 830 مليون طن سنويًّا.
وبناءً عليه، فقد أعلنت العديد من دول العالم استراتيجيات طموحة بشأن الهيدروجين؛ للحفاظ على متوسط درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية، تحقيقًا لأهداف اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في القطاعات الضرورية التي يصعب التخفيف منها، مثل المسافات الطويلة للنقل والطيران والشحن البحري والصناعات الثقيلة لتحقيق الحياد الكربوني. في الوقت الحالي، يُنتَج الهيدروجين الأكثر شيوعًا بشكل أساسي من الوقود الأحفوري، عن طريق علاج الميثان بالبخار أو الفحم، وهو ما يقدر بحوالي 95%، حسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (2019).
بعد الانخفاض في تكلفة الكهرباء في مناطق جغرافية معينة باستخدام تقنيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يتسارع السباق الاقتصادي والسياسي بين دول العالم للحصول على موطن قدم في سوق الهيدروجين في المستقبل.
على سبيل المثال، تخطط ألمانيا لاستثمار ثمانية مليارات يورو -أي ما يوازي 9.74 مليارات دولار- لتمويل مشاريع الهيدروجين على نطاق واسع لضمان خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 55٪ عن مستويات عام 1990، في حين التزمت فرنسا بأن تستثمر 8.3 مليار دولار بحلول عام 2030. كذلك تخطط اليابان لاستثمار 3 مليارات دولار، وبريطانيا 16.6 مليار دولار، والصين 16 مليار دولار لتحويل صناعاتها واستبدال الهيدروجين النظيف بالوقود الأحفوري. كما أعلنت دولة المغرب مؤخرًا خطة لإنشاء محطة للهيدروجين الأخضر والأمونيا، ومن المتوقع أن ينتج هذا المشروع 183000 مليون طن من الأمونيا الخضراء؛ وبذلك يحمي العالم من انبعاث 28000 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا.
وفي نفس السياق، تخطط عمان لاستثمار 2.5 مليار دولار لتطوير مشروع الهيدروجين الأخضر والأمونيا في مدينة الدقم. بالإضافة إلى أن العديد من الدول الأخرى تعمل حاليًّا على تطوير استراتيجيات خاصة بالهيدروجين، ومن المتوقع أن تصدر إعلانات مهمة بهذا الشأن في العام المقبل.
ومع سعي الحكومات والشركات الصناعية إلى إيجاد مصدر بديل للطاقة، تصدرت المملكة العربية السعودية دول العالم التي وضعت استراتيجيات وصممت مشاريع وضخت استثمارات ملموسة لإنتاج الهيدروجين الأخضر؛ تنويعًا لاقتصادها وتقليلًا من اعتمادها على عائدات النفط.
وعليه، أطلقت الحكومة السعودية، برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أكبر مشروع للهيدروجين الأخضر في العالم، وذلك في إطار رؤية 2030. حيث بدأت المملكة في بناء محطة بقيمة 5 مليارات دولار، مدعومة كليًّا بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كمشروع مشترك بين شركات سعودية وأمريكية، وهي: "أكوا باور"، و"نيوم"، و"إير برودكتس Air Products and Chemicals Inc"، والمخطط تشغيلها بحلول عام 2025.
ومن المتوقع أن يوفر هذا المشروع الكبير 650 مليون طن يوميًّا من الهيدروجين الخالي من الكربون، والذي يقلل أكثر من 3 ملايين طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًّا.
يقع مشروع "نيوم" في عمق صحراء المملكة في القسم الشمالي الغربي المطل على البحر الأحمر. وقد تم تشييد المشروع على أرض شاسعة تمتاز بدرجة عالية من التعرض لأشعة الشمس، ويقع في مكان استراتيجي هام، حيث يربط بين قارات العالم؛ مما يوفر سهولة الوصول إلى إفريقيا وآسيا وأوروبا. يسمح هذا الموقع الجغرافي المميز للمملكة العربية السعودية بأن تصبح قوة عالمية في إنتاج الهيدروجين النظيف. كما يمتاز موقع "نيوم" بقربه من الأسواق العالمية؛ كونه يقع على البحر الأحمر الذي يمثل شريانًا دوليًّا حيويًّا للاقتصاد العالمي، إذ ما يقارب 10٪ من التجارة العالمية يمر عبر هذه المنطقة كل عام، وفقًا لبلومبرج لتمويل الطاقة الجديدة (BNEF).
كذلك يمتاز موقع نيوم بامتلاكه موارد غنية، من ذلك الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مع وفرة المساحات الشاسعة من الأراضي غير الصالحة للزراعة؛ مما يزيد من قدرة السعودية على المنافسة من حيث تكلفة إنتاج الهيدروجين النظيف الذي يمكن أن يصل إلى 1.50 دولار للكيلوغرام الواحد بحلول عام 2030، بينما تبلغ التكلفة الحالية لإنتاج الهيدروجين حوالي 5 دولارات للكيلوغرام، بحسب الوكالة الدولية للطاقة المتجددة إيرينا.
ووفقًا لنديم تشودري، الرئيس التنفيذي World Hydrogen Leaders -وهي منصة على شبكة الإنترنت لمديري الصناعة التنفيذيين، مصممة لتسريع إنتاج وتوزيع الهيدروجين النظيف- فإن "قادة دول العالم في السباق الجيوسياسي للهيدروجين الأخضر هي: أستراليا، والمملكة العربية السعودية، ودول بحر الشمال ولا سيما هولندا".
وسعيًا لزيادة فرص استخدام الهيدروجين في المملكة، وقَّع وزير الطاقة في المملكة العربية السعودية ووزير الشؤون الاقتصادية الألماني بيتر ألتماير مذكرةَ تفاهم مشتركة للتعاون بشأن الهيدروجين. وكذلك وقعت أرامكو السعودية مذكرات تفاهم مع المجموعة الحديثة للاستثمار الصناعي القابضة وشركة إنتركونتينينتال إنيرجي لتطوير تقنيات الهيدروجين الأخضر والأمونيا.
وفي سبيل استكشاف فرص جديدة لإنتاج الهيدروجين، ودعم الابتكار، وتعزيز نقل المعرفة؛ تطمح المملكة العربية السعودية بقيادة ولي العهد إلى أن تصبح من أوائل الدول المصدِّرة عالميًّا للهيدروجين النظيف، وتجعل من تحدي تغير المناخ هدفًا رئيسيًّا يرسم دورها المستقبلي في إنتاج الطاقة العالمية.
لقد أخذت الاقتصاديات القائمة على الهيدروجين -إجمالًا- ترسخ وجودها في جميع أنحاء العالم. وفي هذا الصدد فإن المملكة العربية السعودية مهيأة بوضعها المثالي هذا لدور القيادة، لكي تصبح قوة اقتصادية عالمية في إنتاج وتصدير الهيدروجين النظيف في القرن الحادي والعشرين. فنظرًا لتاريخها العريق في ريادة صناعة النفط والغاز العالمية، تستعد المملكة العربية السعودية الآن مرة أخرى لتولي زمام القيادة في قطاع الطاقة العالمي واقتصاد سوق الهيدروجين الأخضر الجديد.
بقلم الدكتور مهدي محمد آل مانع
أستاذ بحث في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية
دكتوراه من كلية لندن University College London في تخصص إنتاج الهيدروجين بالطاقة الشمسية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}