أثار قرار الحكومة الألمانية السماح لشركة "كوسكو" الصينية بشراء حصة تبلغ 24.9% في مرفأ بهامبورج، أكبر موانئ البلاد، عاصفة من الانتقادات والتساؤلات حول دوافع القرار الألماني.
الحصة هي نتاج مساومات انطلقت من سعي الشركة الصينية للحصول على نسبة تبلغ 35% من ثلاثة مرافئ تملكها شركة "اتش اتش ال ايه" في الوقت الذي لن تحصل فيه "كوسكو" على أي حق في الإدارة أو اتخاذ القرارات الاستراتيجية. و"اتش اتش ال ايه" مملوكة بحصة أغلبية لمدينة هامبورج.
القرار يأتي في وقت شديد الحساسية لأوروبا، وقبل أيام من زيارة مؤكدة للمستشار الألماني إلى الصين في نوفمبر الجاري على رأس وفد اقتصادي، وهو فيما يبدو بادرة حسن نية من الألمان للصينيين قبل الزيارة للخروج منها بنتائج إيجابية.
بكين أكبر شريك تجاري لبرلين
الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا على مدى السنوات الست السابقة، إذ بلغ حجم التجارة بين الجانبين أكثر من 245 مليار يورو في 2021.
يقول البعض إن الصفقة جزء من سلسلة صفقات صينية تسهتدف السيطرة على قطاعات من البنية التحتية الأوروبية بهدف استكمال مبادرة الحزام والطريق التي ترمي إلى إحياء طريق الحرير الصيني القديم. ويقول خبراء إن محفظة الصين العالمية من أصول الموانئ، وهو النصف البحري من المبادرة، يتعدى مجرد النشاط التجاري، إذ استحوذت بكين على أصول وتتبنى أخرى تمتد من باكستان وسيريلانكا وحتى جيبوتي وقناة السويس عبورا إلى أوروبا.
المثير للدهشة أن القرار الألماني يأتي بعد شهر فحسب من إعلان ألمانيا على لسان وزير الاقتصاد أنها تعكف على وضع سياسة تجارية جديدة مع الصين تهدف لتقليص الاعتماد على المواد الأولية والبطاريات وأشباه الموصلات الصينية.
من جانبه دافع المستشار الألماني "أولاف شولتس" عن الصفقة منبها إلى حاجة أوروبا لتنويع علاقاتها لضمان عدم تعويلها على دولة واحدة، في إشارة إلى اعتماد ألمانيا لسنوات على روسيا كمورد رئيسي للطاقة مما جعلها تعاني الأمرين بعد الحرب الروسية الأوكرانية وتُوجه إليها سهام الانتقاد لاعتمادها على موسكو لتوريد ما يقرب من 55 بالمئة من وارداتها من الغاز في 2021.
وقال "شولتس" إن الشركات تحتاج لضمان سلاسل إمداد متعددة للحصول على سلعها، وإن الاستثمارات يجب ألا تتركز في دولة واحدة. وقرار "شولتس" جاء على الرغم من معارضة سياسية داخلية ضمن الائتلاف الحاكم الذي يقوده للصفقة بقيادة الخضر والديمقراطيين الأحرار.
لكن الاعتماد على روسيا هو نفسه ما استخدمه منتقدو القرار كسلاح للطعن في جدوى الصفقة إذ يقول سياسيون ألمان إن القرار يشكل ترسيخا لاستثمارات استراتيجية أجنبية. الصفقة أثارت انتقادات داخلية في الحكومة الألمانية حتى إن مصادر أفادت بأن وزارة الخارجية الألمانية أعدت مذكرة خلال اجتماع مجلس الوزراء توثق فيها رفضها للقرار وانضمت إليها وزارات أخرى فضلا عن وزارة الاقتصاد.
وقالت في الوثيقة إن الاستثمار يوسع بشكل غير متناسب التأثير الاستراتيجي للصين على البنية التحتية للنقل في ألمانيا وأوروبا على وجه العموم وكذلك اعتماد ألمانيا على الصين. وأشارت إلى مخاطر كبيرة ناشئة من أن عناصر البنية التحتية للنقل الأوروبي تخضع للتأثير والسيطرة من جانب الصين بينما الصين نفسها لا تسمح لألمانيا بالمشاركة في الموانئ الصينية. هذا فضلا عن أنه في حالة حدوث أزمة فإن عملية الاستحواذ ستفتح الباب أمام إمكانية أن تستخدم الصين سياسيا جزءا من البنية التحتية الحيوية لألمانيا وكذلك أوروبا.
على الجانب الآخر يقول مؤيدو الصفقة إن الشركة الألمانية "اتش اتش ال ايه" نجحت من خلالها في إبرام شراكة حيوية مع شركة كبيرة للشحن هي عميل لها منذ فترة طويلة في مواجهة منافسة دولية حادة، وإنه يجعلها تواكب الموانئ المنافسة والتي تتقاتل على التجارة الصينية وبعضها أيضا مملوك جزئيا لشركة كوسكو. فشركة "كوسكو" لديها حصص بالفعل في أكبر ميناءين في أوروبا وهما روتردام وأنتويرب كما أنها تسيطر على حصة في ميناء بيرايوس اليوناني.
الانتقاد جاء حتى من أقرب الأصدقاء، ففرنسا الحليف القوي لألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي والتي تقود المنطقة معها تقريبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2013 انتقدت ألمانيا واصفة سياستها التجارية تجاه الصين بأنها قصيرة النظر.
ويقول المسؤولون الألمان إنهم على وعي بحاجتهم إلى تقليص اعتمادهم على الصين لكنهم يقولون إن هذا لا يعني أيضا منع جميع الاستثمارات الصينية في أوروبا.
الصفقة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة التي تثير انتقادات ضد الصين، فعلى الرغم من معارضة وكالات الاستخبارات، تتجه الحكومة الألمانية أيضا إلى الموافقة على استحواذ صيني على منشأة إلموس الألمانية لإنتاج أشباه الموصلات ومقرها درتموند والمملوكة لشركة "Silex" السويدية، وهي وحدة تابعة مملوكة بالكامل لشركة "Sai Microelectronics" الصينية.
هل الصين هي الحصان الأسود القادم؟
يرى البعض أن الاعتماد على الصين هو شر لا بد منه لأوروبا خاصة بعد الأزمة مع روسيا وذلك في مسارين أساسيين مهمين وهما الطاقة والصناعة.
كانت الصين قامت بتحويل بعض شحنات الغاز الطبيعي الزائدة على حاجتها وأعادت بيعها لأوروبا المتعطشة للطاقة مما جعل البعض يراهن على الصين باعتبارها الحصان الأسود الرابح لأوروبا في قلب معركة الطاقة وفي ظل قدرات صينية كبيرة لتوليد الطاقة.
ليس هذا فحسب، بل إنه في الوقت الذي قلصت فيه الشركات الأوروبية كثيفة الاستهلاك للطاقة من طاقتها الإنتاجية، بل وتوقف بعضها عن العمل، في ظل ارتفاع صاروخي لأسعار الطاقة في أوروبا، ضاعفت الشركات الصينية إنتاجها لتلبية الطلبات من أوروبا على البطانيات الكهربائية وأجهزة التسخين وحتى ألواح الطاقة الشمسية.
وبالفعل انتقلت أنظار المستثمرين الأوروبيين إلى الصين كبديل لأي توسع استثماري مع افتتاح شركة "باسف" للكيماويات الألمانية لمصنع كبير في تشانجيانغ الصينية، مما غذى النقاش بأن الصين قد تكون ملاذا آمنا للاستثمار الأوروبي في ظل عوامل جاذبية من بينها انخفاض تكلفة الأيدي العاملة والطاقة ووجود قاعدة صناعية داعمة قوية.
وعلى الرغم من أن الحرب على أوكرانيا أثارت دعوات في أوروبا لتقليص الاعتماد الاقتصادي على الصين، فإن بعض المحللين قالوا إن أزمة الطاقة والتوقعات الأكثر قتامة للاقتصاد ربما لا تترك للدول الأوروبية أي خيار سوى زيادة اعتمادها على ثاني أكبر اقتصاد عالمي.
المصادر: أرقام- رويترز- بولوتيكو- سي ان بي سي- بيزنس تايمز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}