"حدث العديد من الانهيارات في تاريخ سوق الأسهم، بعضها نتيجة أسباب يمكن تحسبها، وأخرى بأسباب مفاجئة مثل اندلاع حرب أو انتشار وباء، ولكن المؤكد أنه منذ ثمانينيات القرن العشرين أصبح التحسب لانهيارات الأسهم أهم وأصعب في نفس الوقت لأن سوق الأسهم بات يرتفع في كثير من الأحيان مدفوعًا بـ"جشع" المتداولين".
هذا ما أكده الكاتب الاقتصادي الأمريكي "مايكل لويس" في كتابه "فلاش بويز: تمرد وول ستريت" والذي يكشف فيه عن أن الجشع بات في رأيه خلال السنوات الأخيرة أكثر ما يسبب انهيارات أسواق الأسهم، مضيفًا أن الإجراءات المصرفية والحكومية الخاطئة تأتي في المرتبة الثانية.
لماذا الجشع؟
ويعني "لويس" بـ"الجشع" أي رهان المتداولين الجمعي المستمر على صعود الأسواق، مشيرًا إلى أن الأزمة المالية العالمية أتت من القطاع المصرفي بالفعل، وبالتحديد من الرهن العقاري، لكنها لم تكن لتحدث مثل هذا التأثير على سوق الأسهم لولا رهان 97% من المتداولين وقتها على استمرار صعود السوق لسنوات.
ولعل أبرز مثال على سيادة منطق الجشع في الأسواق كان قريبًا للغاية وتحديدًا بسبب دخول العديد من "الهواة" إلى سوق الأسهم خلال فترة وباء كورونا وجلوسهم في المنزل بلا عمل ورغبتهم في تنمية مواردهم المالية، بما أدى إلى صعود الأسواق بشكل قياسي بدلًا من تراجعها بسبب عدم اليقين المرتبط بوجود وباء عالمي.
وتشير التقديرات الأمريكية مثلا إلى أن 50% من الوسطاء في السوق الأمريكي ظهروا خلال آخر 5 أعوام و30% خلال آخر عامين بما يعكس تهافتًا سريعًا من المشترين والوسطاء فقط بسبب ارتفاع السوق، بما أحدث المزيد من الارتفاعات "غير المبررة".
وأدى هذا الأمر إلى سوق صاعد بالنسبة لـ96% من الأسهم خلال عام 2020 في ظاهرة لم تحدث قط في تاريخ الأسهم الأمريكية، ومع انتهاء الموجة الصاعدة وتكشف العديد من الظواهر المرتبطة بالوباء بشكل أو بآخر وعلى رأسها أزمة سلاسل التوريد حدث تراجع حاد للسوق الأمريكي بنسبة تخطت 20% عن القمة التي بلغها في نوفمبر 2021.
المنحنى "الخادع"
أي أنه يمكن القول إن السوق الأمريكية دخلت سوق دببة أو حدث لها شكل من أشكال الانهيار، لا سيما أسهم التكنولوجيا حيث تخطى مؤشر "ناسداك" للشركات التكنولوجية مستوى 16 ألف نقطة (وهو مستوى قياسي) في نوفمبر 2021.
وعاد المؤشر بعدها ليسجل مستويات تقل عن 10.2 ألف نقطة في ديسمبر 2022 بما يعني أنه فقد قرابة 37% من قيمته خلال13 شهرًا، قبل أن يعاود الارتفاع بنسبة ضئيلة إلى مستوى 12 ألفا في أبريل 2023، ولكن وسط تذبذب واضح في مستويات المؤشر.
وكان هذا الانهيار في "ناسداك" بالأساس بسبب "الجشع"، حيث دخل الكثيرون إلى السوق بسبب المنحنى الصاعد له فحسب، وليس بناء على تقييم واضح على مستقبل الأسهم التي يتم التداول عليها، لا سيما مع وصول أسعار الكثير منها إلى مستويات ارتفع فيها مضاعف الربحية فيها عن 100 وهو رقم كبير للغاية.
ولذا فعلى المستثمر أن يتحسب لـ"انكشاف" الجشع في مرحلة ما، وأن يبقي أمواله بعيدة عن الأسهم عالية المخاطرة بشكل عام، وبشكل خاص مع تنامي المضاربة على حساب الاستثمار، وضخ أموال كبيرة في السوق بشكل مفاجئ.
الانهيار بسبب استغلال الجشع
ويحدث هذا الأمر بصورة أكبر أيضًا في أسواق الدول النامية التي تشكل الأموال الساخنة عنصر تأثير في بورصاتها، حيث تدخل الأموال الساخنة لتحدث منحنى صاعدا "مزيفا" يقبل عليه المستثمرون في هذا البلد بالشراء بناء على الجشع، قبل أن تقوم رؤوس الأموال الساخنة بالبيع بشكل سريع بما يتسبب في انهيار سوق الأسهم.
وحصل هذا الأمر في دول أمريكا اللاتينية بالتحديد كثيرًا منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو ما حدث في عام 2021 في البرازيل على سبيل المثال، حيث سجلت البورصة تراجعاً بنسبة 3% في يوم واحد، وحققت أسوأ أداء للبورصات العالمية بسبب انسحاب الأموال الساخنة منها مع توجهها للولايات المتحدة التي كانت تشهد حينئذ سوقا صاعدة بارزة.
وكثيرًا ما يلعب أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة على مثل هذا العامل، بأن يقوموا بالشراء المكثف لسهم بعينه، وغالبا ما ينتقون واحدا تبدو الأخبار المرتبطة به إيجابية، ومع زيادة الطلب "الموجه" يرتفع السعر بشكل كبير بما يتسبب في توجيه "تيار" جديد من أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والمستثمرين قليلي الخبرة للشراء بناء على المنحنى الصاعد لينسحب المستثمر في نقطة ما ويترك السهم ينهار مع قيامه بعمليات بيع مكثفة.
وفي بعض الحالات يتسبب قيام أكثر من شركة أو أحد كبار المضاربين في البورصات بعمل هذه التحركات في انهيارات ولو محدودة للأسواق، وهنا ينطبق ما يقال أحيانًا عن سوق الأسهم حيث تنتقل الأموال ممن لا يملكون الخبرات ورؤوس الأموال إلى من يملكونها.
علامات تحذيرية
والشاهد أنه في فقاعة "دوت كوم" التي شهدت تأثيرًا مزدوجًا للجشع والمضاربات الممنهجة ارتفع مؤشر "ناسداك" على إثرها بنسبة 800% بين عامي 1995 و2000، ليبدأ انهيار السوق في مارس 2000 بشكل سريع، حتى أن المؤشر فقد 78% من قيمته بحلول أكتوبر 2002 قبل أن يعاود الارتفاع بشكل تدريجي بعدها.
وتكشف "نيويورك تايمز" أن انهيار سوق الأسهم حينها جاء بسبب شيوع "تصور" حول أن الإنترنت سيحدث ثورة جديدة ترفع الإنتاجية مثلما رفعت الثورة الصناعية الإنتاجية عشرات الأضعاف، وبالتالي بات الرهان على نمو أسهم القطاع مبالغ فيه للغاية.
وبشكل عام فهناك العديد من العلامات التي تشير إلى أن سوق الأسهم قد تعاني من انهيار قريب وأبرزها:
- أسهم مقيمة بأكبر من قيمتها: ولعل هذا ما يدفع الكثير للتحذير من انهيار في سوق الأسهم الأمريكية قريبًا في ظل وصول تقييم أن المؤشر العام للسوق أكبر من قيمته الحقيقية بنسبة لا تقل عن 25% وذلك باستخدام مجموعة من المؤشرات منها مضاعف الربحية (26 في المتوسط حاليا بينما تاريخيا 19) وعدد الأسهم الصاعدة في مواجهة المتراجعة، ومعدلات توزيع الأرباح (إذا قلت بشدة بشكل عام يكون مؤشرا سيئا).
- بداية منحنى العائد المقلوب: ويقصد به غالبًا نهاية دورة اقتصادية وبداية دورة أخرى، بما يتبع ذلك تراجع واضح في الإيرادات، وبالتالي يظهر واضحا أن معدل النمو يتحرك بشكل بطيء ثم يثبت تقريباً، قبل أن يبدأ الانحدار بعد ذلك.
- هناك نذر أخرى: لكنها ليست كافية وحدها لكن اجتماعها ينذر أيضا بتراجع حاد في الأسواق، ومنها ما هو قائم حاليًا في بعض الأسواق العالمية مثل ارتفاع أسعار الفائدة ونسب التضخم ومخاوف الركود وتنامي الضغوط الجيوسياسية وغيرها مما ينذر باحتمال حدوث "أمر ما" يشكل شرارة لتراجع الأسواق المهيأة بالفعل بسبب تلك العوامل السابقة.
وفي ظل أي خوف من "انهيار" للسوق فالنصيحة الأكثر عمومية هي البقاء على الهامش، حيث يجب على المتداولين والمستثمرين على المدى الطويل التخلص من الأسهم عالية المخاطر على الفور، بما يسمح له بالحصول على السيولة اللازمة لاستغلال الفرص السانحة في سوق متراجع، لأنه في النهاية عليه تذكر أن أسعار الأسهم سترتفع مرة أخرى بمجرد زوال الغبار.
المصادر: أرقام- كتاب "Flash Boys: A Wall Street Revolt"- بنك ريت- نيويورك تايمز- وييرد
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}