انطلقت جولة جديدة من لعبة "هل نحن في فقاعة؟" الأكثر إثارة في وادي السيليكون. وتدور فكرة اللعبة هذه المرة حول إمكانية أن تغير تقنيةالذكاء الاصطناعي العالم كما سبق أن غيرته الإنترنت إن لم يكن بأكثر من ذلك، أم أن نجمها سيأفل بعد تحقيق بعض تقدم لا يُحدث اقتصاداً عالمياً جديداً.
ممارسة هذه اللعبة ليست سهلةً، حتى أن نقاط البيانات المتوفرة مربكة أكثر ما هي تنويرية. فلنأخذ شركة "كاغنشن إيه أي" (Cognition AI) على سبيل المثال. يُرجح أنه لم يسبق أن سمعتم بهذه الشركة الناشئة من قبل، ويعود ذلك إلى سعيها للحفاظ على السرية، ولكن أيضاً لأنها لم تكن موجودة أصلاً كشركة قبل شهرين.
إلا أن هذه الشركة الحديثة جداً التي تضم 10 موظفين يقسمون وقتهم بين منازل مستأجرة عبر "إير بي إن بي" في وادي السيليكون ومكاتب منزلية في نيويورك، تمكنت من حصد 21 مليون دولار من شركة الرأسمال الاستثماري "فاوندرز فند" (Founders Fund) التابعة لبيتر ثيل ومستثمرين بارزين آخرين، بينهم المدير التنفيذي السابق في "تويتر" إيلاد جيل. إذ يراهن المستثمرون على فريق "كاغنشن إيه أي" وعلى ابتكارها الرئيسي "ديفن" (Devin).
قدرة على إتمام كامل العمل
يساعد "ديفين" على تطوير برمجيات، ويعمل على نسق "كوبايلت" (Copilot) الذي أنتجته "غيت هَب" (GitHub) مع "مايكروسوفت" و"أوبن إيه أي"، ولكن بمستوى أعلى. فبدل الاكتفاء باقتراح البرمجيات وإكمال بعض المهام آلياً، يستطيع "ديفن" أن يقوم بكامل مشروع البرمجة من الألف إلى الياء وحده.
لتشغيل "ديفن"، يكفي أن تعطيه أمراً مثل "أنشئ موقعاً إلكترونياً يتضمن مسحاً لكافة مطاعم المأكولات الإيطالية في سيدني"، فيبحث عن كل المطاعم ويجمع عناوينها ومعلومات الاتصال بها، ثم يبني موقعاً إلكترونياً يعرض هذه المعلومات وينشره. خلال العمل، يُظهر "ديفن" كل المهام التي يقوم بها ويرصد الأخطاء ويصلحها وحده فيما يختبر كتابة الشفيرات البرمجية.
تأسست "كاغنشن إيه أي" على يد سكوت وو الذي يشغل منصب رئيسها التنفيذي وستيفن هاو، كبير مسؤوليها التقنيين ووالدن يان، كبير مسؤولي منتجاتها. كان هاو حتى وقت ليس ببعيد أحد كبار مهندسي شركة "سكيل إيه أي" (Scale AI) وهي شركة ناشئة صاحبة تقييم عال متخصصة بالمساعدة على تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي. من جانبه، طلب يان الذي كان حتى وقت قريب طالباً في جامعة هارفرد عدم الإشارة إلى وضعه في الجامعة لأنه لم يتحدث إلى والديه بعد.
رياضة التشفير
وو، 27 عاماً، هو شقيق نيل وو الذي يعمل هو الآخر في "كاغنشن إيه أي"، ويشتهر الأخوان عالمياً ببراعتهما في مجال التشفير، فهما يشاركان في مسابقات التشفير منذ كانا مراهقين، وغالباً ما يفوزان، وقد ساعدا في رفع شأن فريق التشفير الوطني الأميركي في مواجهة منافسيه الصينيين والأوروبيين الشرقيين في السنوات الأخيرة.
تتطلب رياضة التشفير، نعم هنالك رياضة بهذا الاسم، من المشاركين حلاً أحادياً والقيام بالبرمجة بسرعة ودقة. وهي في ذلك تدرب المشاركين على مقاربة المشكلات بطرق جديدة. تضمّ "كاغنشن إيه أي" كثيراً من ممارسي رياضة التشفير، وسبق لمنسوبيها الفوز بإجمالي عشر ميداليات في كبرى المنافسات الدولية. يرى سكوت وو أن هذه الخلفية تمنح شركته الناشئة ميزة خاصة في حروب الذكاء الاصطناعي.
قال: "تعليم البرمجة للذكاء الاصطناعي يتعلق في الواقع بمسألة خوارزميات متعمقة جداً وتتطلب من النظام اتخاذ قرارات معقدة وإلقاء نظرة نحو المستقبل لتبيان أي طريق يختار... الأمر أشبه بلعبة نمارسها في ذهننا منذ سنوات، والآن نشأت فرصة برمجتها ضمن نظام ذكاء اصطناعي".
التفكير المنطقي
أبرز ما قالته "كاغنشن إيه أي" عن "ديفن" هو أنها حققت إنجازاً على صعيد تمكين الكمبيوتر من التفكير المنطقي. ففي لغة الذكاء الاصطناعي، يعني التفكير المنطقي أن يكون النظام قادراً على الذهاب إلى أبعد من مجرد التنبؤ بالكلمة التالية في عبارة ما، أو الجزء التالي في سطر من شيفرة برمجية، أي أن يكون قادراً على محاكاة التفكير بأسلوب منطقي من أجل حل المسائل.
يسود اعتقاد في عالم الذكاء الاصطناعي بأن التفكير المنطقي هو الخطوة التالية الهائلة التي ستحدث تقدماً في القطاع، وتدعي عدة شركات ناشئة أنها قادرة على مثل هذا النوع من العمل.
يبدو "ديفن" متقدماً عن غيره من برامج المساعدة على التشفير على عدة أصعدة، فيمكنك مثلاً أن تكلّفه بمهام باستخدام أوامر باللغة الطبيعية، فيقوم بها. فيما يعمل "ديفن"، سيخبرك عن خطته ثم يعرض الأوامر والشيفرة التي يستخدمها. وفي حال طرأ خطأ ما، يمكنك أن تعطي الذكاء الاصطناعي أمراً لإصلاح المشكلة، وسيُدخل "ديفن" تعليقاتك إلى مهمته. تواجه أغلب أنظمة الذكاء الاصطناعي صعوبة في الحفاظ على اتساقها وفي التركيز على مهامها خلال مثل هذه الوظائف الطويلة، لكن "ديفن" قادر على القيام بمئات، بل آلاف المهام دون اختلال.
خلال تجربتي للبرنامج، تمكّن "ديفن" من بناء موقع إلكتروني من الصفر، خلال 5 إلى 10 دقائق، واستطاع إنشاء نسخة على الإنترنت من لعبة (Pong) خلال الوقت نفسه تقريباً. أعطيت البرنامج بعض الأوامر بغرض تحسين نمط حركة الكرة في اللعبة وإدخال بعض التعديلات الجمالية على مواقعها الإلكترونية، وقد أنجزها "ديفن" بشكل جيد دون جلبة.
جرب سيلاس ألبيرتي، عالم الكمبيوتر والمؤسس الشريك لشركة ذكاء اصطناعي سرية أخرى (بالطبع) "ديفن" وقال إن هذه التقنية تشكل قفزة نحو المستقبل، معتبراً أنها أكثر من مجرد مساعد على التشفير، بل أشبه بموظف حقيقي يزاول عمله، وأضاف: "يبدو مختلفاً تماماً لأنه نظام مستقل يمكنه القيام بأمور عنك".
بحسب ألبيرتي، يتفوق "ديفن" في إعداد النماذج الأولية للمشاريع وإصلاح العيوب وعرض البيانات المعقدة على شكل رسومات بيانية. قال: "يختلط المسار على معظم برامج المساعدة الأخرى بعد أربع أو خمس خطوات، ولكن هذا البرنامج يحافظ على أدائه بسلاسة طوال مجمل العملية".
تقنية سرية
لا يعرف الأشخاص من خارج الشركة كيف حققت "كاغنشن إيه أي" هذا الإنجاز في غضون فترة وجيزة. إذ يرفض وو الإفصاح عن الأسس التي تستند إليها التقنية، ويكتفي بالقول إن فريقه توصل إلى أساليب فريدة من نوعها تدمج بين النماذج اللغوية الضخمة، مثل "جي بي تي-4" من "أوبن إيه أي"، وتقنيات التعلم المعزز.
وقال: "واضح أن هذا أمر فكر فيه العاملون في هذا المجال منذ وقت طويل، وهو يعتمد كثيراً على النماذج والنهج وترتيب الأمور بالشكل المناسب".
فعلاً، إذ إن "كاغنشن إيه أي" ليست وحدها التي تسعى لبناء مبرمج يعمل بالذكاء الاصطناعي. في الشهر الماضي، جمعت الشركة الناشئة "ماجيك إيه أي" (Magic AI) أكثر من 100 مليون دولار من فريق الرأسمال الاستثماري لدى دانيال غروس ونات فريدمان وآخرين من أجل بناء ما وصفه غروس بـ"مهندس البرمجيات الخارق".
خلافاً لبعض الشركات التي تبني على النماذج اللغوية الضخمة لـ"أوبن إيه أي" و"أنثروبيك" (Anthropic) وغيرها، تعمل "مايجيك إيه أي" على هندسة نماذجها الخاصة وغيرها من التقنيات الأساسية من الصفر في محاولة للحفاظ على استقلاليتها. إلا أن الشركة لم تعرض نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بها علناً بعد، لذا تصعب مقارنته مع أنظمة "كاغنشن إيه أي"، فيما لم تفصح "كاغنشن إيه أي" عن حجم اعتمادها على النماذج اللغوية الضخمة من شركات أخرى، ما يصعّب تحديد إذا ما كانت تتفوق على العمل الذي تقوم به "ماجيك إيه أي".
يعيدنا ذلك إلى لعبة الفقاعة. اسـأل أي أحد لديه خبرة في الذكاء الاصطناعي، وسيخبرك أن الفريقين في كل من "كاغنشن إيه أي" و"ماجيك إيه أي" ممتازان. فيما أن الفريق الأول أكثر شباباً وجمع مبلغاً أقل من المال، إلا أن عملاءه سيتمكنون قريباً من استخدام تقنيته التي يصفها بغير المسبوقة على صعيد التفكير المنطقي. في المقابل، الشركة الثانية أقدم وتمتلك أموالاً أكثر، لكنها تطلب من الناس التريث ليروا ثمرة جهودها الهندسية الأكثر تطلباً ولكنها في الوقت نفسه أقوى.
التأثير على الوظائف
في الحالتين، يتساءل مطورو البرمجيات حول تأثير هذه التقنية الجديدة على سبل كسب رزقهم، فيما يتساءل بقيتنا حول تبعاتها بالنسبة لتطور البرمجة بشكل عام. قد يجوز القول إن برامج المساعدة على البرمجة هذه ستحرر مطوري البرامج من المهام الروتينية المضجرة، ما يمكّنهم من التركيز أكثر على المهام الأكثر تطلباً للابتكار.
إلى ذلك، يمكن للأشخاص الذين لا يجيدون التشفير ولكن لديهم أفكار لامعة أن ينشئوا مواقعهم الإلكترونية وخدماتهم وتطبيقاتهم وحدهم. ولكن من ناحية أخرى، يمكن لبرامج المساعدة هذه أن تقضي على عدد كبير من وظائف تطوير البرمجيات عالية الأجر ما سيقلب قطاع البرمجة رأساً على عقب.
حاول ثيل منذ البداية تصوير "كاغنشن إيه أي" على أنها قوة خارقة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي. وقال في بيان إن شركته للرأسمال الاستثماري لم تستثمر في كثير من شركات الذكاء الاصطناعي، ولكنها تنظر إلى "كاغنشن إيه أي" على أنها على المستوى نفسه مثل الشركات الضخمة التي دعمتها "فاوندرز فَند"، مثل "ديب مايند" (التي أصبحت اليوم جزءاً من "غوغل") و"أوبن إيه أي" و"سكيل".
ليس ضرورياً أن تكون النتيجة فوزاً كاسحاً سواء للشركات أو المستثمرين. فنحن ما نزال في المراحل الأولى لاستكشاف مدى براعة أنظمة الذكاء الاصطناعي في التشفير، وتبعات مهاراتها على الأشخاص الذين يكسبون رزقهم من العمل في هذا المجال. ولكن الواضح أنه في عالم مليء بالنشاط المحموم، تبدو أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على التشفير واحدة من أكثر المجالات الواعدة، وتستقطب بعض ألمع العقول.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}