قدم الاقتصادي الأمريكي "يوجين فاما" فرضية كفاءة السوق في ستينيات القرن الماضي، وهي النظرية التي أثارت –وما زالت تثير- ضجة في افتراضها أن أسعار السلع والأسهم والأصول تعكس جميع المعلومات المتاحة، بما في ذلك المعلومات العامة والخاصة بما يجعل السوق يتسم بالكفاءة.
وفي سوق الأسهم عد "فاما" أن أسعار الأسهم في سوق الأوراق المالية "الكفء" تتفاعل بسرعة مع المعلومات الجديدة، حيث يقوم المستثمرون بتحليل هذه المعلومات وتقييم تأثيرها على قيمة الشركات، بما يجعلها تنعكس بشكل "عادل" و"صحيح" على أسعار الأسهم.
تناقضات مع النظرية
ويعد "فاما" أنه لا يمكن للمستثمرين التغلب على السوق بشكلٍ مُستمر من خلال اختيار الأسهم الفردية، وذلك لأن أسعار الأسهم تعكس بالفعل قيمتها الحقيقية بشكل عادل، حيث تتسم أسواق الأسهم بالفاعلية، لأنها تعمل بآلية تضمن حصول جميع المستثمرين على نفس المعلومات المتاحة واتخاذ قراراتهم بناءً عليها.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
فهل نظرية "فاما" عملية؟.. تكشف السلوكيات الحقيقية في السوق أنها ليست كذلك، على الأقل ليس بصورة كاملة، حيث لا تتسم الأسواق دائما بالعقلانية لأن العوامل النفسية، وسلوكيات القطيع تؤديان إلى تقلبات السوق غير المنطقية.
حوالي 70% من المتداولين في الأسهم يراهنون باستمرار على أن السوق "سيتصرف" بالطريقة التي يريدونها أو يتوقعونها، وما الذي يحدث عندما تختلف توقعاتهم عن الواقع؟ يبدأون في البيع أو الشراء بشكل جمعي، فيما يعرف بسلوك القطيع، والذي تنخرط فيه نسب متفاوتة وفقا لحدة تغيرات السوق، لكنها لا تقل عن 20% من المتداولين وتصل في بعض الحالات إلى 60%.
كما تتناقض فرضيات "فاما" مع ما أكدته دراسة أمريكية من أن 35% من المتعاملين في الأسواق يدخلون إليها وفقا لما "يشعرون به"، بل ويتحرك قرابة 40% من المتعاملين في السوق بعد دخولهم بفترة وفقًا لما يكونونه من آراء وانطباعات شخصية، أي أن نسبة هؤلاء الذين يفتقدون إلى الرشادة الاقتصادية ترتفع مع قضاء البعض أوقاتًا في السوق على الرغم من أنه يمكن لكثيرين أن يتخيلوا العكس منطقيًا.
ماذا عن انهيارات الأسواق؟
كما أن فرضية "فاما" تتضمن بشكل ضمني على الأقل عدم حدوث انهيارات كبيرة، فكيف يتم تفسير انهيار سوق الأسهم عام 1987، حين انخفض مؤشر "داو جونز الصناعي" 22% في يوم واحد، وانفجار فقاعة "دوت كوم" في أوائل الألفية الجديدة، ثم وقوع الأزمة المالية العالمية.
وتُفسر النظرية تقلبات السوق، كبيرة كانت أو صغيرة، على أنها ردود فعل عقلانية للمستثمرين على المعلومات الجديدة.
وعلى ذلك فإن أبرز انتقادين لنظرية "فاما":
عدم الواقعية: تفترض النظرية أن المستثمرين عقلانيون تمامًا، ويتصرفون بناءً على المعلومات المتاحة بشكل كامل، وهو أمر غير واقعي في التطبيق العملي، كما أن المستثمرين يتفاوتون بشكل كبير جدًا بين مكاسب كبيرة وخسائر ضخمة، ومنهم من يتغلب باستمرار على السوق.
وجود معلومات غير متاحة: قد لا تكون جميع المعلومات متاحة لجميع المستثمرين على قدم المساواة، مما قد يُؤدي إلى عدم كفاءة السوق.
وهنا يجب الإشارة إلى أن نظرية "فاما" قد تكون مقبولة في حالات بعض الأسواق بدرجة ما، وهي الأسواق الأقرب لأسواق المنافسة الكاملة، مثل الكثير من سلع الاستقراب -منتجات البقالة مثلا- حيث تصل "غالبية" المعلومات عن الأسعار والجودة لـ"غالبية" البائعين والمشترين، ليبقى تأثير درجة العقلانية لأطراف العملية الاقتصادية ذا تأثير أيضا.
استنتاجات مفيدة رغم الانتقادات
ويقول "بريم جين" أستاذ الاقتصاد في جامعة "جورج تاون"، الذي يعارض الكثير من افتراضات "فاما"، إن استنتاجاته مع ذلك تبقى مفيدة، لأن الاستثمار السلبي، والذي تدعمه النظرية، مثل الاستثمار في صناديق الأسهم قد يكون أكثر فاعلية من الاختيار النشط للأسهم (المضاربة)، وذلك لأن التنبؤ بحركة الأسهم الفردية بشكل مستمر أمر صعب، كما أن التحركات على المدى الطويل أسهل في التوقع من تلك قصيرة المدى.
ويشير "جين" إلى أن هؤلاء المستثمرين من غير ذوي الخبرة الكبيرة أو الثروات الطائلة الذين يستثمرون في مؤشرات الأسواق (التي تهتم بعمل محفظة متنوعة من مؤشر معين أو الاستثمار في صندوق استثمار يقوم بذلك) يحققون نتائج تفوق بحوالي 60% على الأقل عن نتائج نظرائهم من نفس المجموعة، وذلك لأن الاستثمار في المؤشرات والصناديق بطبيعته طويل المدى وتقلباته أقل حدة وأقل إثارة للقلق.
وهنا يجب الإشارة إلى أن سوق الأسهم ليس سوق منافسة كاملة بالمعنى التقليدي في النظرية الرأسمالية، حيث إن أطرافا مثل مجالس الإدارة وصانع السوق والمشرعين يجعلون لتأثيرات أخرى غير الطلب والعرض التقليديين تأثيرات متفاوتة في حدة تأثيراتها.
ويقول "جين" إنه في أفضل الأحوال سوق الأسهم لا يقترب من 50% من فرضيات سوق المنافسة الكاملة، في ظل العوامل المؤثرة السابقة وأيضا عدم التوازن بين المعلومات المتاحة لمختلف المستثمرين، فمثلا كم مستثمرًا لديه فرصة الجلوس مع رئيس مجلس إدارة شركة قبل الاستثمار فيها، مثلما كان "وارين بافت" يجلس مع "بيل جيتس" ولاحقًا مع رئيس مجلس إدارة "بي.واي.دي" الصينية.
"ناسداك" كمثال
وهنا يختلف فائز آخر بجائزة نوبل في الاقتصاد، جاري بيكر، مع نظرية "فاما" بتقديره لأن أقل من 10% فقط من المتداولين في سوق الأسهم هم الذين يتمكنون من تلافي الآثار السلبية النفسية لتقلبات السوق عليهم، ويتمسكون باختياراتهم "الرشيدة" حتى مع شواهد مؤقتة تدفعهم عكس قراراتهم التي درسوها بعناية.
وتشير الدراسات إلى أن أكثر من 70% من المتداولين في سوق الأسهم يرون أن السير في "ركب السوق" بمثابة وسيلة لـ"الشعور بالأمان"، حيث يعتقدون بذلك أنه إذا خسرت السوق فسوف يخسرون، وإذا ربحت فسوف يربحون، وبالتالي فإنهم لن يكونوا خاسرين وحدهم إذا اختلفت خياراتهم عن المجموع.
ولكن حتى المؤشرات وهي الأكثر استقرارًا تشهد تقلبات تعتبر بمقياس "فاما" غير منطقية، ومن ذلك فإن مؤشر "ناسداك" على سبيل المثال في منتصف مايو 2023 كان عند مستوى 12365 نقطة قبل أن يبلغ 14300 نقطة قرب نهاية شهر يوليو، ولكنه عاد لنفس المستوى فوق 12 ألف نقطة في منتصف أكتوبر 2023.
وفي الحادي عشر من أبريل 2024 وصل المؤشر إلى 16440 نقطة، قبل أن ينحدر إلى 15280 نقطة في التاسع عشر من أبريل (بعد تصريحات مارك زوكربيرج عن مستقبل الذكاء الاصطناعي واحتمال تأخر ثماره الاقتصادية)، قبل أن تعيد تطمينات ألفابت وأمازون ومايكروسوفت حول الذكاء الاصطناعي المؤشر إلى نفس مستويات 11 أبريل تقريبًا وذلك في 12 مايو 2024.
فكل هذه التقلبات حدثت خلال عام واحد، محصلتها النهائية هي ارتفاع المؤشر بنسبة 32%، ولكن الواقع أن التقلبات في المؤشر كانت مستمرة، كما هي الحال في غالبية الأسهم والمؤشرات، بما يعكس أن أطراف السوق تستجيب للمعلومات كما يقول "فاما" لكن استجابتها لا تكون "مبررة" أو منطقية أو في حدود المقبول بل عادة ما تكون مبالغا فيها.
وهنا يجب الانتباه إلى تأثير مفهوم التحوط في تحركات المستثمرين، فتصريحات "زوكربيرج" خلقت شكوكًا لدى 34% من المستثمرين حول الذكاء الاصطناعي، واحتاج الأمر لتأكيدات كثيرة حتى يقل تأثير هذه التصريحات، ولكن يبقى السؤال: هل من المنطقي أن يؤدي تصريح واحد فقط في هذه المسألة إلى كل هذا التشكك والهبوط في المؤشرات؟
بالطبع لا.. فهذا يعكس عدم دراسة كافية للسوق وللاحتمالات المستقبلية للذكاء الاصطناعي وآثاره الاقتصادية من جانب المتداولين في أسهمها، على الرغم من أن هذا الأمر يجب أن يكون في صدارة اهتمامات أي شخص يقوم بالاستثمار في الشركات التكنولوجية هذه الأيام.
وتتناقض افتراضات "فاما" أيضًا مع الكثير مما أثبته "الاقتصاد السلوكي" في سوق الأسهم، ومن ذلك أن الكثير من المتداولين يعدون السوق "خصمًا" لهم، وكأنه كيان موحد، وعلى الرغم من ذلك يفضل 80% السير في ركاب "الغالبية" حتى لا يشعروا بـ"الهزيمة" أمام خصمهم إذا جاءت اختياراتهم المختلفة خاطئة، فوجودهم ضمن غالبية الخاسرين ييسر تبرير الخسارة ويقلل ألمها نفسيًا.
كما تشير دراسة إلى أن أكثر من 66% من المتعاملين في السوق الأمريكية يعانون من متلازمة "الدائرة المفرغة" والتي يحاولون فيها التوصل إلى قرار استثماري رشيد بدراسة المعطيات، ويرهقون.
وبالتالي وبعد وقت طال أو قصر يعتمد هؤلاء في النهاية على نصائح الآخرين سواء سمسار البورصة أو الوكيل أو أحد المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي أو تطبيق ذكاء اصطناعي، وهو ما يتناقض بشدة مع افتراض الرشادة المطلقة وفقًا لـ"فاما".
وفي نهاية المطاف، فإن افتراضات "فاما" حول كفاءة السوق ليست مرفوضة كلية، وليست منطبقة على الواقع الاقتصادي بشكل كامل أيضا، لكن بالتأكيد لها مزاياها الإيجابية بتفضيل الاستثمار طويل المدى ورفض المضاربات، وهو أفضل للمستثمر والاقتصاد، ولها عيوبها وفي صدارتها تجاهل أن من يديرون الاقتصاد والأسواق بشر لا يمكن افتراض العقلانية الكاملة فيهم.
المصادر: أرقام- كتاب "Flash Boys: A Wall Street Revolt"- فورتشن- فوربس- إيكونوميست
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}