إسلام زوين الرئيس التنفيذي لـ أرقام
إنها لندن في سبتمبر بطقس قارس البرودة صباحا على غير العادة. وللاستمتاع بتأمل أزقة المدينة وشوارعها، لا بد من التجول سيرا على الأقدام في أكبر مركز مالي في أوروبا، وسط العاصمة البريطانية، وبجوار كاتدرائية سانت بول.
لا شيء يحجب رؤية الكاتدرائية التي تختزن إرثا تاريخيا يعود لأكثر من 300 عاما، وهي واحدة من أبرز الأيقونات المعمارية والثقافية التي تهيمن على أفق المدينة رغم المباني الشاهقة التي انتشرت في الجوار، وفي أماكن أخرى على بعد دقائق قليلة إلى منطقة "سكوير مايل"، رمز التجارة والمال في المملكة المتحدة حيث ناطحات السحاب التي تستضيف البنوك والشركات العالمية. تبلغ مساحة المنطقة حرفياً ميلاً مربعاً أو أقل من 3 كم2 تقريباً.
يبلغ متوسط سعر المتر المربع في هذه المنطقة من لندن حوالي 17,000 جنيه إسترليني إلى 22,000 جنيه إسترليني بأسعار اليوم. وبينما كنت أسير بالقرب من حديقة هايد بارك الخلابة، تذكرت طرفة قالها لي صديق يستثمر في العقارات منذ عدة سنوات ولديه محفظة تضم العديد من العقارات في لندن: "أعطني حديقة هايد بارك وسأقوم برصفها وبناء مجمع سكني عالمي بالغ الفخامة!".
ابتسمت مع تفهم وجهة نظره المالية بما أنه أحد محترفي العقارات، مع أن الفكرة قد تفسد على أمثالي متعة تأمل أماكن تاريخية أصيلة، لكن النكتة استحضرت على الفور صورة كاتدرائية سانت بول مباشرة على وجه التحديد، بسبب قيود البناء الصارمة للغاية في لندن، والتي تمكننا كزوار أو سياح من الاستمتاع بجمال الطراز المعماري الفريد.
فمنذ عام 1938، تتبنى "مؤسسة مدينة لندن"، مقر عمدة حي المال والأعمال في المدينة، سياسة تُسمى بـ "ارتفاعات سانت بولس"، لحماية إطلالة الكاتدرائية، من بنايات شاهقة وناطحات سحاب تُفسد روعة المنظر. لا عجب إذن أن السياح والمارة من أمثالي يكتشفون المبنى الأيقوني بسهولة من الزوايا لأربعة المحيطة به.
هذا النهج الحذر في البناء، والذي امتد فيما بعد ليشمل معالم ثقافية أخرى، له شقان: أولاً، من المؤكد أنه يحافظ على التراث الثقافي ويحميه، وهو مصدر رئيس لاقتصاد المدينة جلب لها حوالي 17 مليار جنيه إسترليني العام الماضي بزيادة قدرها 18 في المئة عن عام 2022، وثانياً، هو عامل رئيس أسهم في جعل وسط لندن ثالث أغلى متر مربع على هذا الكوكب بعد موناكو وهونغ كونغ على التوالي، بسبب نقص المعروض من الوحدات السكنية، والموقع الفريد!
وكما تسعى لندن للحفاظ على تراثها الثقافي، تواجه الرياض تحديًا مماثلاً وهي تسعى للحفاظ على هويتها التاريخية والثقافية بالتوازي مع خطط التحول العمراني الكبرى ضمن الرؤية. مشاريع مثل "بوابة الدرعية" تمثل هذا التوازن بين الماضي والمستقبل.
ومن المثير للاهتمام أن الدراسات الأكاديمية تشير إلى أن تخفيف قيود الارتفاع الحالية لبناء المزيد من المباني الشاهقة للمساعدة في حل معضلة الإسكان في جميع أنحاء العالم يقلل من إجمالي قيمة الأراضي الحضرية بنسبة تقدر بـ 4.7% و9.5% في الاقتصادات النامية والمتقدمة على التوالي، فيما يتواصل ارتفاع أسعار الوحدات السكنية والمنازل على نحو جنوني!
في الربع الثاني من هذا العام، ارتفع مؤشر أسعار المنازل في العالم بأكثر من 3% على أساس سنوي، باستثناء الصين بسبب تعثر عدد من الشركات العقارية التي تسببت في أزمة عقارية لا تزال تعصف بهذا القطاع الحيوي في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ولكن، حتى لو استمرت أسعار العقارات في الارتفاع، فإن العديد من الناس في جميع أنحاء العالم يعتبرونها استثمارًا موثوقًا به وذا قيمة عالية. والسبب الآخر للطلب المستدام والصحي هو نظام الرهن العقاري الجذاب طويل الأجل. العامل الثالث، هو أن بعض البنوك المركزية بدأت بالفعل في خفض أسعار الفائدة مع انخفاض التضخم؛ ما سيشجع المشترين المترددين على الشراء.
وكما أن لندن تجذب المستثمرين الأجانب الذين يدفعون أسعارًا أعلى من نظرائهم المحليين، فإن الرياض أيضًا بدأت في جذب الأنظار من المستثمرين الدوليين بفضل الإصلاحات الاقتصادية في المملكة.
وتمامًا كما ظلت كاتدرائية سانت بول شامخة وسط ناطحات السحاب في لندن، تواصل الرياض الحفاظ على هويتها التاريخية بينما تمضي قدمًا نحو مستقبل مليء بالتطورات العمرانية. وبينما تشهد المدن الكبرى في العالم تحولًا في أسواق العقارات والاستثمار، يبقى الرابط المشترك بينها هو التوازن بين الماضي والحاضر، وبين الحفاظ على التراث والابتكار. سواء كنت تسير في شوارع لندن أو الرياض، ستظل هذه المعالم شاهدة على قدرة المدن على النمو والازدهار دون التفريط في جذورها الثقافية والتاريخية.
إسلام زوين، الرئيس التنفيذي لـ"أرقام".