منذ توليه الرئاسة، جعل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة أولوية رئيسية، مستخدمًا التعريفات الجمركية كسلاح اقتصادي لإجبار الشركات الكبرى على الاستثمار محليًا.
ولعل إعلان "آبل" أمس عن خطط لاستثمار 500 مليار دولار أمريكي بالولايات المتحدة على مدى الأربع سنوات المقبلة، أحدث ردّ فعل لضغوط "ترامب"، إذ إن تلك الخطط جاءت في إطار سعيها لتلافي الرسوم الجمركية التي فرضها على السلع المستوردة.
وشكر ترامب عبر منشور على منصة تروث سوشيال، شركة آبل ورئيسها التنفيذي "تيم كوك" على هذا الإعلان، ناسبًا الفضل لنفسه قائلًا: "السبب في ذلك هو الثقة فيما نقوم به، وبدونها لم يكونوا ليستثمروا عشرة سنتات".
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وفرض الرئيس الأمريكي تعريفات جمركية على الواردات من دول مثل الصين والمكسيك، ما قد يؤثر بشكل كبير على استراتيجيات استثمار الشركات الأمريكية الكبرى.
ويدافع "ترامب" عن تلك التعريفات قائلًا إنها صُممت لحماية الصناعات المحلية وتقليل العجز التجاري، ما دفع الشركات إلى إعادة النظر في سلاسل التوريد العالمية ومواقع التصنيع الخاصة بها.
وأثار إعلان آبل الأخير العديد من التساؤلات، أبرزها هل ستخضع شركات أخرى لهذه التعريفات من خلال إعادة التصنيع والاستثمار داخل الولايات المتحدة، أم إنها ستبحث عن حلول أخرى لتقليل التأثيرات السلبية على تكاليف الإنتاج والربحية؟
إعلان آبل واستراتيجية ترامب الجمركية
قالت أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية في بيان صدر الإثنين، إنها تخطط لتشييد مصنع جديد في تكساس، ومنشأة تصنيع خوادم في هيوستن، وأكاديمية للموردين في ميشيجان، ما قد يسهم في توظيف 20 ألف شخص.
وذكرت الشركة أنها تسهم في نحو 2.9 مليون وظيفة داخل الولايات المتحدة من خلال التوظيف المباشر والعمل مع الموردين والمصنعين الأمريكيين.
كما أعرب "تيم كوك" عن فخره بتعزيز استثمارات آبل طويلة الأمد في الولايات المتحدة بـ500 مليار دولار، والتي تعادل أرباح الشركة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
إعلان آبل جاء بعدما صرح "ترامب" الجمعة الماضية، بأن "كوك" وعده باستثمار مئات الملايين من الدولارات في الولايات المتحدة، مع نقل عمليات التصنيع من المكسيك إلى أمريكا.
إيرادات آبل من داخل الولايات المتحدة مقارنة بمناطق أخرى من العالم (بالمليار دولار أمريكي) |
||||
الفترة الزمنية |
أمريكا |
أوروبا |
الصين |
اليابان |
النصف الأول (2021) |
80.6 |
49.6 |
39.1 |
16.1 |
النصف الثاني (2021) |
72.7 |
39.7 |
29.3 |
12.4 |
النصف الأول (2022) |
92.4 |
51.1 |
44.1 |
14.3 |
النصف الثاني (2022) |
77.3 |
42.1 |
32.9 |
11.1 |
النصف الأول (2023) |
87.1 |
51.7 |
41.7 |
13.9 |
النصف الثاني (2023) |
75.5 |
42.6 |
30.8 |
9.3 |
النصف الأول (2024) |
87.7 |
54.5 |
37.2 |
13.1 |
النصف الثاني (2024) |
79.3 |
46.8 |
29.8 |
11 |
ويعد هذا انتصارًا جديدًا لاستراتيجية "ترامب" الجمركية، التي تسعى لإجبار العديد من الشركات الأمريكية الكبرى على العودة للاستثمار والتصنيع داخل الولايات المتحدة من خلال فرض رسوم الجمركية كبيرة على واردات البلاد.
وكان "ترامب" قد وجه تحذيرات مباشرة لشركات الأدوية خلال اجتماع خاص الأسبوع الماضي بأن الرسوم الجمركية باتت وشيكة، داعياً تلك الشركات إلى الإسراع في نقل إنتاجها من الخارج إلى الولايات المتحدة.
لكن خطوة آبل الأخيرة، أثارت التساؤلات حول إمكانية أن يكون هذا الإعلان بداية لاتجاه أوسع بين الشركات الأمريكية الكبرى.
وإذا رجعنا قليلًا للوراء فإن "ترامب" فرض خلال ولايته الأولى أيضًا، تعريفات جمركية صارمة على السلع الصينية، بهدف تقليل العجز التجاري الأمريكي، وحماية الوظائف الصناعية، وتشجيع الشركات على إعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة.
وقد تراوحت هذه التعريفات بين 10 و25% وشملت واردات بقيمة تتجاوز 500 مليار دولار، بما في ذلك الصلب والإلكترونيات والسلع الاستهلاكية.
ورغم أن هذه السياسة كانت تهدف إلى تعزيز الصناعة الأمريكية، فقد أدت أيضًا إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج للشركات التي تعتمد على سلاسل التوريد العالمية، ما دفع العديد منها إلى نقل عملياتها إلى بلدان أخرى بدلًا من العودة إلى الولايات المتحدة.
هل تحذو الشركات الأمريكية الكبرى حذو آبل؟
نجحت بعض القطاعات مثل الرقائق في زيادة نسبة التصنيع داخل الولايات المتحدة، مستفيدة ببعض الحوافز الحكومية، فيما لا تزال القطاعات الأخرى تعتمد بشكل كبير على الإنتاج الخارجي.
وبفضل قانون صدر خلال إدارة الرئيس السابق "جو بايدن" افتتحت شركة تي إي إم سي، الموردة الرئيسية للرقائق لشركة آبل، مؤخرًا مصنعًا جديدًا لتصنيع الشرائح في ولاية أريزونا، مستفيدة من دعم حكومي بقيمة 6.6 مليار دولار.
لذا فإن تحويل الشركات الأمريكية الكبرى خططها الاستثمارية بما يجعل الولايات المتحدة مقصدها الرئيس ليس بالأمر الهيّن، وهو ما يطرح تساؤلات حول رضوخ الشركات الأمريكية لسياسات "ترامب" الجمركية.
ففي قطاع مثل التكنولوجيا، تعتمد شركات مثل مايكروسوفت، وجوجل، وأمازون بشكل كبير على سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات ومعدات الذكاء الاصطناعي، وخاصة من تايوان وكوريا الجنوبية.
ورغم أن شركة مثل مايكروسوفت قامت بتوسيع مراكز البيانات والبنية التحتية السحابية داخل الولايات المتحدة، فإن إنتاج أجهزتها لا يزال يُجرى في الخارج.
كما أنه من غير المرجح أن تغير جوجل وأمازون سلاسل التوريد العالمية الخاصة بهما بشكل جذري، إلا أنه من المحتمل أن تزيدا من الاستثمارات في مراكز الأبحاث والتطوير في الولايات المتحدة بدلًا من الصين.
أما في قطاع السيارات فالوضع يبدو أكثر تعقيدًا، إذ تعتمد كبرى الشركات الأمريكية مثل فورد وجنرال موتورز على مصانعها في المكسيك وكندا لتجميع المركبات وقطع الغيار، مستفيدةً من اتفاقيات التجارة الحرة.
وفي حين أن تعريفات ترامب الجمركية خلال ولايته الأولى على السيارات وقطع الغيار المستوردة كانت تهدف إلى عودة الشركات للتصنيع بالولايات المتحدة، فإن الواقع أثبت أن تلك الشركات فضلت استراتيجيات بديلة لتلافي ارتفاع التكاليف.
لكن حاليًا هناك مؤشرات على تحول جزئي، حيث أعلنت فورد استثمارات جديدة في مصانعها الأمريكية لتصنيع السيارات الكهربائية، كما تخطط جنرال موتورز لاستثمار مليارات الدولارات في مصانع البطاريات داخل الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن إعادة التصنيع بالكامل إلى الولايات المتحدة لا تزال تواجه عقبات بسبب التكاليف العالية للبنية التحتية والعمالة.
وفي قطاع مثل التجزئة والسلع الاستهلاكية تعتمد شركات مثل وول مارت ونايكي ووليفايز بشكل كبير على التصنيع في آسيا.
ومن المرجح أن تنقل هذه الشركات عملياتها من الصين إلى دول أخرى مثل فيتنام والهند والمكسيك، بدلًا من توطين عملياتها بالولايات المتحدة لتجنب التعريفات الجمركية.
وعلى سبيل المثال تعهدت وول مارت بشراء 350 مليار دولار من المنتجات المصنوعة في أمريكا بحلول عام 2030، إلا أن هذا لا يمثل سوى نسبة صغيرة من إجمالي وارداتها.
سندان الجمارك أم مطرقة التكلفة
وفي ظل تعريفات "ترامب" الجمركية الأخيرة والتي قد تشمل سلع تصل قيمتها إلى 900 مليار دولار، على الشركات الأمريكية أن تواجه إما عبء تلك الجمارك أو التعامل مع التكلفة المرتفعة للإنتاج داخل الولايات المتحدة.
فعلى سبيل المثال تعد تكلفة العمالة في الولايات المتحدة أعلى بكثير من نظيراتها في الصين أو فيتنام أو المكسيك، كما أن توطين عمليات التصنيع يحتاج لتطوير البنية التحتية واستثمارات طويلة الأجل لا ترغب جميع الشركات في الالتزام بها.
علاوة على ذلك، تعتمد العديد من الصناعات على المواد الخام والمكونات المستوردة، ما يجعل إعادة التصنيع أمرًا معقدًا، لا سيما أن الولايات المتحدة تفتقر إلى التكامل في سلاسل التوريد بالمستوى الذي تتمتع به آسيا.
لذا فإن خيار العودة للاستثمار والتصنيع داخل أمريكا قد لا يكون خيارًا عمليًا للعديد من الشركات، وقد تضطر إلى انتهاج استراتيجيات للتحايل على التعريفات الجمركية مثل إعادة تصنيف المنتجات لتجنب التعريفات أو الاستفادة من المناطق التجارية الحرة لتقليل التكاليف.
وتشير التجارب السابقة إلى أن معظم الشركات لن تعيد التصنيع بالكامل، بل ستتبع استراتيجيات تكيفية تشمل تنويع مواقع الإنتاج، وأتمتة المصانع، وإيجاد بدائل للموردين بدلًا من إعادة التوطين الشامل.
ويظل نجاح خطط ترامب في إجبار الشركات الأمريكية على العودة للاستثمار في بلاده رهن قدرة الإدارة الأمريكية على توفير بيئة استثمارية جاذبة تتجاوز مجرد فرض التعريفات الجمركية.
فالشركات لا تتخذ قراراتها بناءً على الضغوط السياسية فقط، بل تدرس عوامل مثل تكاليف التشغيل، وتوافر العمالة الماهرة، والبنية التحتية الداعمة، بالإضافة إلى الحوافز الضريبية.
وفي هذا السياق، يرى محللون أن استثمارات آبل قد تكون بداية لتوجه أوسع، لكنها لن تمثل بالضرورة تحوّلًا جذريًا في سلاسل التوريد العالمية.
ورغم أن قرار آبل بزيادة التصنيع في الولايات المتحدة يعد خطوة مهمة، لكن تظل هناك شكوك بشأن إمكانية أن يؤدي إلى حركة واسعة النطاق لإعادة الإنتاج إلى الداخل.
فوجود عوامل مثل التكاليف، والخدمات اللوجستية تجعل التخلي عن التصنيع في الخارج أمرًا غير مجدٍ بالنسبة لمعظم الشركات، وقد تتبنى الشركات نهجًا مختلطًا يجمع بين توسيع عملياتها في الولايات المتحدة وتوزيع إنتاجها عالميًا لتجنب التعريفات الجمركية.
لذا قد تكون خطوة آبل بداية لاتجاه جديد، لكن قرارات الشركات الكبرى الاستثمارية لا تُبنى على ضغوط سياسية فقط، بل على معادلة معقدة تشمل العديد من العناصر من بينها التكلفة والاستدامة والمنافسة العالمية.
المصادر: أرقام- بلومبرج- نيورك تايمز – رويترز- آبل- ستاتيستا- سي إن إن
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}