في أغلب جامعات العالم، دائماً ما تتم الإشارة إلى "آدم سميث" باعتباره "أبا الاقتصاد الحديث". هذه الفكرة تعتبر واحدة من أهم الأفكار التي يرتكز عليها علم الاقتصاد الغربي. لكن توجد هناك بعض الأدلة التي تشكك في مدى صحة ذلك.
في كتابه الشهير "المقدمة" قام عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي (1332 - 1406 م) المعروف باسم "ابن خلدون" بوضع أسس عدد من مختلف مجالات المعرفة، ولا سيما علم الحضارة (العمران). ومع ذلك، فإن إسهاماته الكبيرة في علم الاقتصاد يجب أن تضعه في تاريخ ذلك العلم كواحد من رواده، إن لم يكن "أباً للاقتصاد الحديث"، اللقب الذي أعطي لـ"سميث" الذي نشرت أعماله (التي لا يمكن إنكار أهميتها) بعد حوالي 370 عاماً من وفاة "ابن خلدون".
لم يقم "ابن خلدون" بوضع أسس الاقتصاد الكلاسيكي سواء في الإنتاج أو العرض أو التكلفة فحسب، بل كان أيضاً رائداً في تناول مفاهيم الاستهلاك والطلب والمنفعة، والتي تعتبر بمثابة حجر الزاوية في النظرية الاقتصادية الحديثة.
أطروحات متشابه.. وقرون في المنتصف
- يستعرض أستاذ إدارة الأعمال بجامعة كزافييه في لويزيانا "جيمس بارتكوس" و"كبير حسن" أستاذ المالية بجامعة نيو أورليانز أوجه التشابه بين الأطروحات الاقتصادية في ورقة بحثية مشتركة.
- لاحظ الأستاذان، أن الفصل الأول في "مقدمة ابن خلدون" يوازي نفس الفصل في كتاب "آدم سميث" الشهير "ثروة الأمم". حيث يشير "ابن خلدون" في كتابه إلى مزايا التخصص وتقسيم العمل باعتبارها شرطاً من أجل البقاء على قيد الحياة، ويوضح هذا المفهوم من خلال استعراض دقيق للمهارات اللازمة من أجل إنتاج مستوى الكفاف من الغذاء.
- يوضح "ابن خلدون" أن قوة الفرد البشري المفرد غير كافية لتمكنه من الحصول على الطعام الذي يحتاجه. فلو افترضنا أن كل ما يحتاج إليه الإنسان للتغذية هو الخبز، فإن الأمر حتماً يتطلب القيام بالطحن والعجن، وهي العمليات التي يحتاج القيام بها إلى الأواني وأدوات معينة لا يمكن الحصول عليها إلا بمساعدة الحرفيين، مثل الحدادين والنجارين.
- تابع "ابن خلدون" في شرحه للفكرة التي لم يطلق عليها بالمناسبة نظرية، قائلاً "حتى لو افترضنا أن الرجل يمكنه العيش من خلال أكل الحبوب غير الجاهزة، فإن الحصول على تلك الحبوب في الأصل يتطلب عدة أمور من بينها الزراعة والحصاد ثم فصل تلك الحبوب عن قشرتها. وبالتالي لا يستطيع الإنسان بمفرده الحصول على احتياجاته من الغذاء دون التعاون مع أقرانه.
- بعد ما يقرب من أربعة 4 قرون من نشر "المقدمة" يوضح "آدم سميث" نفس المفهوم ولكن بطريقة مختلفة.
- ضرب "آدم سميث" مثالاً بأحد مصانع الدبابيس، التي زارها، مشيراً إلى أن المصنع الذي يعمل به 10 موظفين دون تقسيم العمل بينهم، أي أن كل واحد منهم يقف على عملية صناعة الدبوس من بدايتها إلى نهايتها، تبلغ طاقته الإنتاجية اليومية 20 دبوساً للفرد، في حين أن نفس الموظفين العشرة يمكنهم مجتمعين إنتاج 48 ألف دبوس يومياً إذا تخصص كل منهم في جزء معين من العملية الإنتاجية.
- قام "ابن خلدون" أيضاً بتناول قوى السوق بطريقة مبسطة وسلسة جداً مشابهة لطريقة "ألفريد مارشال". يقول "دانيال أولاه" محلل الاقتصاد الكلي في وزارة الاقتصاد القومي المجرية، إن تحليل العرض والطلب لم يتم اختراعه في القرن التاسع عشر، لأن "ابن خلدون" وصف قبل ذلك التاريخ بقرون علاقة العرض والطلب، وأخذ أيضاً دور المخزونات وتجارة البضائع في الاعتبار.
- قسم "ابن خلدون" الاقتصاد إلى ثلاثة أجزاء هي : الإنتاج والتجارة والقطاع العام، في حين أن أسعار السوق في نظريته شملت الأجور والأرباح والضرائب. وفي الوقت نفسه قام بتحليل سوق السلع والعمل والأراضي. وقد قاد هذا النهج المنظم "ابن خلدون" إلى وضع أسس نظرية القيمة بالعمل.
- كانت فكرة "ابن خلدون" هي أن القيمة المنتجة ستساوي صفرا إذا كانت مدخلات العمل تساوي الصفر أيضاً، وهي الفكرة التي تنتمي بامتياز إلى الاقتصاد الكلاسيكي، رغم أنه تم تناولها من قبل "ابن خلدون" قبل فترة كبيرة من ظهور الاقتصاد الكلاسيكي.
- تعرض "ابن خلدون" أيضاً لتأثير النمو السكاني على الاقتصاد، وشرح النظرية الضريبية، وهي ذات النظرية التي دفعت الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" إلى التصريح في إحدى المرات بأن لديه أصدقاء مشتركين مع "ابن خلدون"، وذلك في إشارة إلى عالم الاقتصاد "آرثر لافر".
- كان السبب في ذلك، هو أن "لافر" نفسه اعتبر "ابن خلدون" واحداً من رواد علم الاقتصاد، واعترف بأن أول من لاحظ نظريته التي حاول خلالها التدليل على أن خفض الضرائب من شأنه أن يساهم في خلق نمو اقتصادي يمكنه توليد إيرادات ضريبية جديدة، كان هو "ابن خلدون".
- كما أسهم أيضاً في مجال الاقتصاد الدولي. فمن خلال ملاحظاته الإدراكية وعقله التحليلي نجح في تسليط الضوء على مزايا التجارة بين الأمم. فوفقاً لـ"ابن خلدون" تساعد التجارة الخارجية على زيادة كل من: شعور الناس بالرضا وأرباح التجار وثروات البلدان.
أيهما أكثر أصالة فكرياً؟ .. ومتى تأثر "سميث" بـ"ابن خلدون"
- على الرغم من مساهمات "ابن خلدون" العظيمة في مجال الاقتصاد إلا أن "آدم سميث" لسبب ما هو من يعتبر على نطاق واسع "أبا الاقتصاد الحديث".
- يقول الاقتصادي الأمريكي الشهير "جوزيف شومبيتر": "شخصياً لا أتفق مع من يرى أن "آدم سميث" هو أبو الاقتصاد الحديث، فعلى الرغم من اعتقادي بأنه أحد الفلاسفة العظماء الذي ساهموا بشكل كبير في مجال الاقتصاد، إلا أن الكثير من أطروحاته كانت عبارة عن شرح بليغ وعرض جديد ومبسط لأفكار اقتصادية سابقة".
- يتابع "شومبيتر" قائلاً: "أعتقد أن أفكار "ابن خلدون" أكثر أصالة من تلك الخاصة بـ"آدم سميث"، فعلى الرغم من أن الأول قام ببناء نظرياته على أسس وضعها عدد من أسلافه، مثل أرسطو وأفلاطون وطاهر بن الحسين إلا أن "ابن خلدون" في النهاية هو الذي وضع أسس العديد من الأفكار الأصلية في مجموعة مختلفة من مجالات الفكر الاقتصادي."
- مع الأسف، تمت نسبة العديد من الأفكار الاقتصادية وكذلك جزء من الفلسفة الاقتصادية لحرية الاختيار لـ"آدم سميث" دون أن يتم منح الفضل أو الإشارة إلى المفكر الأصلي "ابن خلدون".
- يقول الدكتور "إبراهيم عويس" أستاذ الاقتصاد الأمريكي بجامعة جورج تاون، إنه على الرغم من أن "آدم سميث" لم يشر صراحة إلى استفادته من مساهمات "ابن خلدون" إلا أنه يوجد العديد من نقاط الاتصال المحتملة بين الرجلين، والتي يستعرضها كالتالي:
- تخرج "أدم سميث" من جامعة جلاكسو، حيث تأثر بمدرسة "فرانسيس هتشسون" الذي تأثر بدوره بـ"أنتوني أشلي كوبر" وعدد من الفلاسفة الآخرين الذين تأثروا جميعاً بشكل مباشر وغير مباشر بفكر "ابن خلدون".
- عقب تخرجه، كرس "سميث" نفسه ست سنوات للبحث في مكتبة جامعة أكسفورد، والتي كان يعرض بها مؤلفات "ابن خلدون" ولكن بعد حذف اسمه من عليها، كجزء من محاولة معظم الفلاسفة الغربيين في العصور الوسطى لطمس أي جهود علمية للعلماء المسلمين، وذلك على خلفية المشاعر التي خلقتها الحروب الصليبية.
- هناك أيضاً احتمال آخر، وهو أنه من الممكن أن "آدم سميث" تعرض لمساهمات الاقتصادية لـ"ابن خلدون" من خلال التأثير المهيمن للدولة العثمانية في ذلك الوقت. فمنذ ظهور الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر، قامت بتوسيع حدودها لتصل إلى ذروتها في القرن السادس عشر وتشمل الكثير من جنوب شرق أوروبا وجنوب غرب آسيا، كما قامت ببناء جسر جديد يربط بين المثقفين في القارة الأوروبية ونظرائهم في أراضي الدولة العثمانية التي كانت مصر (التي أمضى بها بن اخلدون الجزء الأخير من حياته) تابعة لها.
- أخيراً، حتى لو لم يتعرض "آدم سميث" بشكل مباشر لأفكار "ابن خلدون" الاقتصادية، تبقى الحقيقة هي أن البذور الأصلية للاقتصاد الكلاسيكي وحتى النظرية الاقتصادية الحديثة تعود إلى الرجل الذي توفي في العام 1406 ميلادية بمصر ودفن بعاصمتها القاهرة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}