"لقد تعلمت أشياء كثيرة من "جورج سوروس"، ولكن ربما أكثرها أهمية، هو أن الأمر لا يتعلق بكونك على حق أو على خطأ، ولكنه يتعلق بكم المال الذي ستربحه إذا كنت على حق، والكم الذي ستخسره إذا كنت على خطأ" ..هذا رأي "ستانلي دروكنميلر" الذي يعد واحدا من أنجح مديري صناديق التحوط.
عام 1992، جثا بنك إنجلترا على ركبتيه حرفياً إذا جاز الوصف، نتيجة رهان مضمون من "سورس" ضد الجنيه الإسترليني ربح خلاله أكثر من مليار دولار، ليتسبب في انهيار النظام النقدي لبريطانيا العظمى في يوم واحد.
قاد "سورس" مجموعة من المضاربين خلال عملية دمر خلالها نظام العملة الأجنبية في المملكة المتحدة، وربح كماً هائلا من المال هو ومن معه على حساب دافعي الضرائب البريطانيين وغيرهم ممن تسبب حظهم العاثر في أن يكونوا على الجانب الخطأ في أكبر رهان مالي في القرن العشرين، وذلك بحسب ما ذكره تقرير نشرته مجلة "برايس إيكونوميكس".
وبمناسبة مرور ما يقرب من عقدين ونصف على هذه الواقعة، سنعود في هذا التقرير لنروي القصة بالتفصيل من البداية، وننتقل بسرعة بين تطورات الأحداث حتى نصل إلى السادس عشر من سبتمبر/أيلول عام 1992 أو ما يعرف بـ"الأربعاء الأسود".
ومن أجل استيعاب أفضل للكيفية التي استطاع من خلالها "سوروس" تحقيق ثروة طائلة من الرهان ضد الإسترليني، سيتطلب الأمر التعرض بشكل سريع لكيفية عمل أسعار الصرف بين البلدان، وأدوات الاقتصاد الكلي التي تستخدمها الحكومات للتحفيز.
السياق التاريخي للواقعة
- من البداية، سيكون من الجيد وضع الأمر في سياقه التاريخي. بعد الحرب العالمية الثانية أرادت البلدان الأوروبية دمج اقتصاداتها معاً بشكل أكثر إحكاماً، حيث أملت أن يساعد ذلك في منع اندلاع حروب كارثية بينها كل بضعة عقود، وأن يمكنها ذلك أيضاً من إنشاء سوق أوروبية موحدة منافسة بقوة للولايات المتحدة.
- توج هذا السعي بالاتحاد الأوروبي والذي لم يصل إلى الشكل الذي عليه اليوم إلا في عام 1999. ولكن كانت مقدمة الاتحاد الأوروبي هي آلية سعر الصرف الأوروبية (ERM)، والتي أنشئت عام 1979. في ذلك الوقت لم تكن البلدان الأوروبية على استعداد للتخلي عن عملاتها الوطنية، لكنها وافقت على تثبيت أسعار صرف عملاتها مقابل بعضها البعض بدلاً من تعويمها وترك الأمر لقوى السوق.
- بما أن ألمانيا هي صاحبة أقوى اقتصاد في أوروبا، وافقت جميع الدول على تحديد أسعار صرف عملاتها على أساس المارك الألماني، واتفقوا على السماح بتحرك ذلك السعر ضمن نطاق مقبول لا يتجاوز 6% أعلى أو أقل المعدل المتفق عليه.
- ليس معنى أن أسعار الصرف ثابتة، أن الحكومات تحددها وتنسى أمرها. حيث توجد هناك ملايين التعاملات التي تجري يومياً بسوق العملات من أجل شراء الواردات أو بيع الصادرات، ويتعرض السعر لضغوط بسبب تقلبات العرض والطلب، لذلك تحتاج الحكومات للتدخل في السوق والحفاظ على سعر الصرف ضمن النطاق المتفق عليه.
- يمكن للحكومات أن تدير عملتها بطريقتين رئيسيتين. أولاً، يمكنها استخدام احتياطياتها من العملات الأجنبية في شراء عملتها المحلية، وبذلك ترتفع قيمة الأخيرة. القيام بالعكس يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة المحلية.
- بدلاً من ذلك، يمكن للحكومة التأثير على أسعار الصرف من خلال التحكم في أسعار الفائدة. بمعنى، إذا كانت الحكومة تريد رفع قيمة العملة، تلجأ إلى رفع أسعار الفائدة لإغراء الجمهور بشرائها ومن ثم إقراضها بأسعار فائدة أعلى. وإذا كانت ترغب في العكس تخفض أسعار الفائدة لتذهب رؤوس الأموال إلى أماكن أخرى بحثاً عن أرباح أعلى.
"تاتشر" بين تعويم الإسترليني وتثبيت سعره
- في عام 1990، كان التضخم مرتفعاً في بريطانيا، والإنتاجية منخفضة والصادرات غير قادرة على المنافسة، ولم يكن هناك أحد يعتقد بأن حكومة رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك "مارجريت تاتشر" قادرة على مواجهة هذه المشاكل.
- كانت "تاتشر" من أشد المعارضين لانضمام بلادها إلى آلية سعر الصرف الأوروبية، وأصرت على أن سعر الإسترليني يجب أن تحدده قوى السوق. ولكن في عام 1990 لم تكن "تاتشر" تمتلك القوة السياسية الكافية لمعارضة أعضاء آخرين في حزب المحافظين أرادوا أن يتم تثبيت سعر الصرف الإسترليني مثل بقية أوروبا.
- أيد "جون ميجر" وزير الخزانة في حكومة "تاتشر" قرار الانضمام إلى آلية سعر الصرف الأوروبية. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 1990، دخلت بريطانيا أخيراً الآلية بسعر صرف قدره 2.95 مارك ألماني لكل جنيه إسترليني. وكانت الحكومة البريطانية ملزمة بإبقاء سعر الصرف في حدود 2.78 مارك ألماني إلى 3.13 مارك ألماني.
- بعد ذلك وبوقت قصير، حل "ميجر" محل "تاتشر" وأصبح رئيساً للوزراء. ولفترة امتدت لما يقرب من عامين لم تكن هناك مشاكل في هذه السياسة. لكن في عام 1992 شعرت بريطانيا بأثر الركود العالمي الهائل، وارتفعت نسبة البطالة إلى 12.7% من 7.7% فقط قبل عامين.
- من هنا بدأت الأمور تتعقد. فنظرياً، يمكن للحكومة البريطانية تحفيز الاستثمار والإنفاق عن طريق خفض أسعار الفائدة. ولكنها إذا قامت بذلك سينخفض الإسترليني إلى ما دون المعدل المتفق عليه. لذلك بينما كان يعاني البريطانيون من الركود وقفت الحكومة مكتوفة الأيدي لا تدري ما يجب عليها فعله.
- في عام 1992، كان "جورج سوروس" البالغ من العمر وقتها 62 عاماً يترأس صندوق التحوط "كوانتم فاند" الذي أسسه في عام 1970 والذي كان يراهن بشكل رئيسي على تحولات الاقتصاد الكلي في البلدان. كان "سوروس" رجلا غنيا، لكنه لم يكن فاحش الثراء أو شخصية عامة كما هو اليوم.
القشة التي قسمت ظهر الـ ...
- بحلول ربيع عام 1992، أي بعد عام ونصف فقط من انضمام بريطانيا إلى آلية الاستقرار الأوروبية، شكل سعر الصرف الثابت مشكلة خطيرة. ففي الوقت الذي كان يبتسم فيه المسؤولون أثناء حديثهم للعامة عن الوضع، كانت أرجل الجميع داخل وزارة الخزانة البريطانية تتخبط في بعضها البعض، بعد أن أدركوا أن سعر الإسترليني أمام المارك الألماني لا يعبر عن قيمته الحقيقية.
- كان الإسترليني مبالغا في تقييمه، والحكومة البريطانية كانت تعرف ذلك، والسوق أيضاً كان يعرف تلك الحقيقة، حيث كانت العملة البريطانية يتم تداولها في ذلك الوقت عند أقل قيمة مسموح بها أمام المارك الألماني ضمن اتفاق تثبيت العملة.
- رغم كل ذلك، ما منع الإسترليني من الانهيار هو تعهد الحكومة البريطانية للجميع بأنها ستلتزم بالقيمة المتفق عليها ضمن اتفاق تثبيت سعر الصرف. واستمر الوضع كما هو عليه مع ميل الجميع إلى الاعتتقاد بأن إنجلترا ستبقى ملتزمة إلى أجل غير مسمى بشراء عملتها من حامليها مقابل حوالي 2.95 مارك ألماني.
- على مدار صيف عام 1992 لم يتغير شيء وحافظ الإسترليني على موقفه، وذلك إلى أن قامت ألمانيا بإلقاء بريطانيا تحت الحافلة، لتشهد المملكة المتحدة يوماً تتمنى حتى الآن لو تنساه.
- في ليلة السادس عشر من سبتمبر/أيلول نشرت "الإندبندنت" البريطانية الفقرة التالية ضمن أحد تقاريرها "لا يستبعد رئيس البنك المركزي الألماني البروفيسور "هلموت شليزنجر" – حتى عقب خفض أسعار الفائدة الألمانية – إمكانية تعرض عملة أو عملتين لضغوط قبل الاستفتاء في فرنسا، وأكد على أن المشاكل الموجودة لم تنجح في حلها الإجراءات المتخذة".
- مع حلول صباح ذلك اليوم، كان التقرير على مكتب "جورج سوروس"، والذي تشارك مع أغلبية السوق في الاعتقاد بأن الإسترليني واحد من بين العملات التي ألمح إليها رئيس البنك المركزي الألماني.
الأربعاء الأسود
- "ليس هناك منطق في أن تكون متأكداً من الجانب الرابح وتضع استثمارا صغيرا به" .. هكذا تترجم كلمات"جورج سوروس" ما يؤمن به وما عمله فعلا.
- منذ أغسطس/آب عام 1992 و"سوروس" مع صندوقه "كوانتم فاند" يقومان ببناء محفظة قدرها 1.5 مليار دولار للمراهنة على انخفاض سعر الإسترليني. ولكن بعد الاطلاع على تقرير الإندبندنت" قرر "سوروس" اقتراض الأموال بقدر ما يستطيع، ليرفع قيمة الرهان إلى 10 مليارات دولار. وكان رهاناً مثالياً، فإما خسائر ضئيلة أو مكاسب لا حدود لها.
- في روايته لتفاصيل ما حدث يقول جورج سوروس "عندما خرج وزير المالية البريطاني "نورمان لامونت" قبيل قرار تخفيض العملة ليقول إنه سيقترض ما يقرب من 15 مليار دولار للدفاع عن الإسترليني، كان الأمر ممتعاً بالنسبة لنا لأننا كنا نرغب في بيع ذلك المبلغ بالضبط".
- في صباح الأربعاء الموافق السادس عشر من سبتمبر/أيلول 1992 فتحت بورصة لندن أبوابها كالمعتاد، وقام المسؤولون البريطانيون أولاً بشراء مليار إسترليني في تمام الساعة 8:40 صباحاً. لكن لم يكن لعملية الشراء أي تأثير على سعر الجنيه، ببساطة كان العالم كله يبيع العملة البريطانية.
- لم يمتلك البريطانيون القوة الشرائية الكافية للدفاع عن الإسترليني في وجه هذا الزحف. تشير التقديرات إلى أن الحكومة البريطانية أنفقت 27 مليار إسترليني من احتياطياتها من أجل الدفاع عن عملتها لكن دون جدوى.
- بحلول الساعة التاسعة صباحاً اتصل وزير الخزانة برئيس الوزراء "جون ميجر" ليخبره بأنهم لا يستطيعون شراء ما يكفي من الإسترليني للحفاظ على العملة، وأن خيارهم الوحيد هو رفع أسعار الفائدة بنسبة كبيرة وجذب الناس إلى شراء الجنيه.
- لكن "ميجر" رفض هذا الاقتراح، لأن بريطانيا كانت في خضم ركود، ومن شأن زيادة أسعار الفائدة أن يزيد من انكماش الاقتصاد، الأمر الذي سيكون أشبه بالانتحار السياسي.
- يستمر البريطانيون في الشراء ولا يتغير الوضع، وبعد ساعة ونصف يتصل "وزير الخزانة مرة أخرى برئيس الوزراء ليحثه على إعادة النظر في رفع أسعار الفائدة، ليوافق الأخير في الحادية عشرة صباحاً على رفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس من 10% إلى 12%.
- كيف كان انعكاس ذلك القرار على قيمة الإسترليني؟ لم يحدث شيء، واصلت العملة البريطانية تراجعها، ليتوجه وزير الخزانة بنفسه إلى مقر رئاسة الوزراء لبحث كيفية إنقاذ الوضع، ليقرروا بعد ذلك رفع أسعار الفائدة مرة أخرى بمقدار 300 نقطة أساس لتصل إلى 15%.
- هذه المرة، ما هو تأثير تلك الزيادة على سعر الإسترليني؟ مرة أخرى لم يحدث شيء. ببساطة في مقابل تلك المحاولات المستميتة من جانب البريطانيين كان "سوروس" ومجموعته واثقين من أن الفوز قريب جداً.
- جالسون في مكاتبهم على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، رأى "سوروس" ومجموعته أن رفع أسعار الفائدة ما هي إلا سكرات رجل يحتضر، وتوقعوا أن تضطر بريطانيا لخفض قيمة عملتها والخروج من آلية استقرار أسعار الصرف الأوروبية.
- بحلول السابعة والنصف مساءً، عقد وزير الخزانة البريطاني مؤتمراً صحفياً أعلن خلاله خروج بلاده من آلية استقرار أسعار الصرف الأوروبية، وتعويم عملتها، ليربح "سوروس" ومن معه أكثر من مليار دولار، وتتم الإطاحة بنظام العملة في بنك إنجلترا، ويخسر البريطانيون المليارات، ويصبح السادس عشر من سبتمر/أيلول أسوأ يوم في التاريخ السياسي لرئيس الوزراء البريطاني " جون ميجر".
- في التاريخ المالي البريطاني، يشار لذلك اليوم بـ"الأربعاء الأسود"، بينما يطلق عليه جورج سوروس "الأربعاء المذهل".
- بمجرد أن تم تعويم الإسترليني، تراجع بنسبة 15% أمام المارك الألماني وبنسبة 25% أمام الدولار الأمريكي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}