نبض أرقام
10:16
توقيت مكة المكرمة

2024/07/28
2024/07/27

قناة بنما .. الممر المائي الذي فعلت أمريكا كل شيء في سبيل السيطرة عليه

2017/10/07 أرقام - خاص

مع مطلع القرن العشرين، وعقب الحرب الأمريكية الإسبانية مباشرة، أرادت الولايات المتحدة فرض سيطرتها على المحيطين الأطلنطي والهادئ، في ذلك الوقت كان سلاح البحرية هو الذراع الأهم لأي جيش في أوقات الحرب، حيث لم يكن سلاح الجو قد ظهر بعد، لذلك ارتبط وضع الدول على الساحة العالمية بقوتها البحرية.



 

أدرك الأمريكيون أنهم بحاجة إلى نقل السفن بسرعة من الشرق إلى الغرب، وإذا تمكنوا من إيجاد طريقة سيصبح بإمكانهم السيطرة على المحيطين. ومن هنا ظهرت الأهمية الإستراتيجية والجيوسياسية لقناة بنما، التي تمكنت الولايات المتحدة من خلال السيطرة عليها بأن تصبح أقوى دولة على وجه الأرض.
 

النجاح فيما فشل فيه الفرنسيون
 

- كانت بنما جزءًا من كولومبيا عندما قرر المهندس الفرنسي "فرديناد ديليسبس" – الذي أشرف على بناء قناة السويس – بناء قناة عبر برزخ أمريكا الوسطى تربط بين المحيطين الأطلنطي والهادئ. وبداية من عام 1881 قام الفرنسيون بمجهود خارق لشق القناة، ولكنهم واجهوا العقبة تلو الأخرى، إلى أن انتهى المشروع في عام 1889 بكارثة مالية.

 

- ألهم فشل الفرنسيون في شق القناة الرئيس الأمريكي "تيودور روزفلت" حلماً. وفي بداية القرن العشرين طالبت أمريكا كولومبيا بالتوقيع على معاهدة تنقل بموجبها مهمة الإشراف على البرزخ إلى اتحاد شركات "أمريكا الشمالية" لكن كولومبيا رفضت.

 

- في عام 1903 أرسل "روزفلت" أسطول ناشفيل الحربي إلى بنما، والذي قام بالقبض على قادة الميليشيات المحلية وقتلهم، قبل أن يعلنوا استقلال بنما عن كولومبيا. فيما نصّب الأمريكان حكومة شكلية قامت بالتوقيع على معاهدة القناة الأولى.



 

- منحت هذه المعاهدة الوجود الأمريكي على جانبي الطريق المائي نوعاً من الشرعية، ومهدت الطريق أمام أي تدخل عسكري مستقبلي، لتطبق واشنطن سيطرتها الفعلية على الدولة المشكلة حديثاً التي قيل إنها مستقلة.

 

- لم يوقع على هذه المعاهدة بنمي واحد، وكان طرفاها، هما وزير الخارجية الأمريكي والمهندس الفرنسي "فيليب بونو فاريللا" الذي كان عضواً في فريق العمل الأساسي أثناء المحاولة الفرنسية الفاشلة لشق القناة.

 

- لأكثر من نصف قرن، ظلت بنما محكومة من قبل حكومة مكونة من العائلات الثرية التي تربطها علاقات وثيقة مع واشنطن، وتدعم أنشطة وكالة الاستخبارات الأمريكية ووكالة الأمن القومي الأمريكيتين في تحركهما ضد الشيوعية.
 

ظهور "عمر توريخوس" .. تغير مسار التاريخ البنمي فجأة
 

- خلال الفترة ما بين إعلان استقلال بنما وحتى عام 1968، كافأت الولايات المتحدة العائلات التي تحكم بنما مقابل دعمها للسياسة الأمريكية، والسماح لها بالتدخل في شؤون البلاد عشرات المرات.

 

- دون سابق إنذار، وقع حادث غير سار بالنسبة للأمريكيين. فقد وقع انقلاب أطاح بالرئيس البنمي "آرنولفو آرياس"، ليتولى مقاليد السلطة "عمر توريخوس" رغم أنه لم يشارك مشاركة فعالة في ذلك الانقلاب.

 

- كان "عمر توريخوس" يتمتع بتقدير من الطبقة المتوسطة واحترام الطبقات الفقيرة من شعب بنما. فهو نفسه قد نشأ في بلدة ريفية في سانتياجو وكان والداه يعملان بالتدريس. وكان يسير في شواع بنما المكدسة بالأكواخ ويعقد الاجتماعات في أحيائها الفقيرة التي لا يجرؤ رجال السياسة على دخولها.

 

- "الحرية هدف "عمر".. لم تُخترع بعد الآلة التي يمكنها قتل الأهداف النبيلة!" هذه هي العبارة التي وجدها " جون بيركنز" الذي رصد هذه الفترة من تاريخ بنما في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي" مكتوبة تحت صورة لـ"عمر توريخوس" معلقة بأحد الشوارع أثناء زيارة قام بها لبنما في أبريل/نيسان 1972.

 

- مع صعود "عمر توريخوس" إلى رأس السلطة، لم تعد بنما لأول مرة في تاريخها دمية في يد واشنطن أو غيرها. ولم يستسلم "توريخوس" أبداً للإغراءات التي عرضتها موسكو وبكين في محاولة لاستغلال موقفه من الولايات المتحدة، فقد كان مصمماً على كسب حرية بلاده من واشنطن دون التحالف مع أعدائها.



فجأة أصبح هناك رجل وحيد يقف في وجه طموحات واشنطن، وعلى الرغم من أنه ليس أول من فعل ذلك، فقد فعلها قبله "كاسترو" و"أليندي"، إلا أن "توريخوس" كان هو الوحيد الذي قام بذلك بعيداً عن الآيديولوجية الشيوعية ودون أن يصف حركته بأنها ثورة.

 

- ببساطة، ما قاله "توريخوس" حينها هو أن بنما دولة مستقلة من حقها ممارسة سلطاتها التامة والمطلقة على شعبها وأراضيها ومسطحاتها المائية التي تمر عبر أراضيها، وأن هذه الحقوق لا يملك أي طرف منازعتها فيها حتى أقوى دولة على وجه الأرض.

 

- أعلنها "توريخوس" بشكل واضح أنه لم يعد يرغب في وجود مراكز التدريب التابعة للجيش الأمريكي الموجودة بالقرب من قناة بنما ضمن حدود بلاده، وتحديداً مدرسة "الأمريكيتين" التي من بين خريجيها دكتاتوريو أميركا اللاتينية وجنود متورطون في جرائم كبرى ضد حقوق الإنسان.

 

- بعد مفاوضات ناجحة مع الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر"، نجح "عمر توريخوس" في عام 1977 في استعادة سيادة بلاده على القناة، ومرت الاتفاقية الجديدة الموقعة بين الجانبين بصعوبة بالغة من الكونجرس الأمريكي الذي أقرها بفارق صوت واحد فقط.
 

الاغتيال مصير كل من يسبح ضد التيار في أمريكا اللاتينية
 

- في الرابع والعشرين من مايو/أيار عام 1981 اغتيل رئيس الإكوادور "خايمي رولدوس" عبر تفخيخ طائرته، ضمن عملية يعتقد على نطاق واسع وقوف الاستخبارات الأمريكية خلفها، تم تنفيذها بشكل فج، لتكون رسالة لـ"عمر توريخوس" وغيره ممن يفكرون في تحدي مصالح الولايات المتحدة.

 

- لكن "توريخوس" لم يكن بالرجل الذي تثني عزيمته تلك التهديدات، ورفض بصلابة الاستسلام لمطالبات إدارة "ريجان" بشأن إعادة التفاوض على معاهدة القناة التي استطاع انتزاعها من الأمريكان خلال فترة "كارتر".

 

- بعد شهرين من مقتل الرئيس الإكوادوري، وتحديداً في 31 يوليو/تموز 1981، وبذات الطريقة، اغتيل "عمر توريخوس" من خلال تفجير طائرته!، ومرة أخرى تصدر هذا العنوان الصفحات الرئيسية للصحف "اغتيال على يد رجل المخابرات الأمريكية!".

 

- انقلبت أمريكا اللاتينية رأساً على عقب، فقد كان "عمر توريخوس" معروفاً في العالم أجمع، وكان احترام الجميع له نابعاً من نجاحه في إرغام الولايات المتحدة على التخلي عن قناة بنما وتركها لأصحابها الحقيقيين، وعدم خوفه من مواجهة "رونالد ريجان".

 

- يبدأ "جراهام جرين" كتابه "الجنرال كما عرفته" بالفقرة التالية "في أغسطس/آب 1981، كنت قد حزمت حقيبتي استعداداً لرحلتي الخامسة إلى بنما حين أتاني خبر مقتل الجنرال "عمر توريخوس" صديقي ومضيفي. تحطمت الطائرة الصغيرة التي كان يستقلها عائداً إلى بيته في كوكلسيتو في جبال بنما، ولم ينج أحد من الحادث. بعد عدة أيام قال لي حارسه الشخصي خوسيه دي ماتينز: "لقد كانت هناك قنبلة في تلك الطائرة. أعرف أنه كانت هناك قنبلة في الطائرة، لكني لا أستطيع أن أخبرك بالسبب في الهاتف".



- سادت حالة من الحزن في كل مكان لموت الرجل الذي حاز سمعة طيبة بوصفه مدافعاً عن الفقراء والمهمشين، وبدأت تتعالى الأصوات المطالبة بفتح تحقيقات في أنشطة الاستخبارات الأمريكية. ولكن كان من المستحيل أن يتم فتح تحقيق مثل هذا.

 

- قائمة كارهي "عمر توريخوس" تشمل الكثير من ذوي النفوذ. فقبل وفاته، لم تكن كراهية الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" له خافية على أحد بل كانت معلنة وصريحة، الأمر ذاته بالنسبة لنائب الرئيس في ذلك الوقت "جورج بوش الأب" ووزير الدفاع وهيئة أركان الجيش الأمريكي، إضافة إلى عدد من المديرين التنفيذيين لكبرى الشركات العالمية التي أضرتها سياسات "عمر توريخوس".

 

- كان الأمريكيون ساخطين على اتفاقية "توريخوس" و"كارتر" التي أرغمتهم على إغلاق مدرسة "الأمريكتين" وقاعدة الكوماندوز الجنوبية، وكانوا يرون أن "عمر توريخوس" نجح في حصرهم في الزاوية وتركهم أمام خيارين، إما الالتفاف على المعاهدة أو البحث عن بلد آخر ينقلون إليه منشآتهم الحربية.

 

- اختار الأمريكان الخيار الثالث، وهو التخلص من "عمر توريخوس" وإخراجه من المعادلة ومن ثم إعادة التفاوض مع من سيخلفه بشأن المعاهدة.
 

بعد فشل السياسة.. غزو بنما للسيطرة على القناة
 

- بعد وفاة "عمر توريخوس" تولى حكم بنما "مانويل نورويجا" في الثاني عشر من أغسطس/آب 1981، والذي حاول الالتزام بالسير على خطى سلفه ومعلمه، والاهتمام بقضيتي الفقر والاضطهاد اللتين تعانيهما أمريكا اللاتينية.

 

- بالنسبة للأمريكين، أخطر ما قام به "مانويل نورويجا" هو عدم التخلي عن فكرة "عمر توريخوس" الخاصة بإنشاء قناة جديدة يمولها اليابانيون. وكما كان متوقعاً فقد لقي معارضة شرسة من قبل واشنطن والشركات الخاصة الأمريكية.

 

- لم يكن قلق الأمريكيين لدواع أمنية فقط، بل كانت المنافسة التجارية حاضرة في الحسبان، حيث إن دخول اليابانيين في المعادلة يعني فقدان الشركات الأمريكية لمليارات الدولارات.

 

- غير أن "نورويجا" كان يختلف عن "توريخوس"، إذ كان مفتقداً لكاريزمية ونزاهة سلفه. فبمضي الوقت اكتسب سمعة سيئة مع اتهامه بالفساد وتجارة المخدرات، وحامت حوله الشكوك في ترتيب اغتيال غريمه السياسي "هوجو سبادافورا"، والتحالف مع الأمريكيين والتجسس لصالحهم.



- لكن رغم ذلك، تمتع "نورويجا" ببعض الممانعة تجاه الولايات المتحدة، حيث رفض بعناد تمديد عمل مدرسة "الأمريكيتين" لخمس عشرة سنة أخرى، وقال إن بلاده لم تعد ترغب في أن يوجد على أراضيها معسكر لتدريب فرق الموت وقوات القمع المتطرفة.

 

- مع استمرار عناد "نورويجا" قامت الولايات المتحدة في 20 ديسمبر/كانون الأول 1989 بغزو بنما، عبر شن هجوم جوي صنف كأعنف قصف جوي على مدينة منذ الحرب العالمية الثانية. أذهلت هذه الخطوة العالم، الذي رأى هذا الغزو هجوماً لا مبرر له على سكان عزل.

 

- جريمة بنما أنها بالكاد تجرأت ورفضت الانصياع لرغبات ثلة من الساسة والمسؤولين التنفيذيين لشركات كبرى. فقد أصرت على احترام اتفاقية القناة وقامت باستكشاف إمكانية بناء قناة جديدة بالتعاون مع الشركات اليابانية، وكانت نتائج هذا السعي مدمرة.

 

- في سعيها لصياغة تبرير مناسب لهجومها الذي تسبب في إحراجها على الساحة العالمية، قامت الولايات المتحدة بتصوير "نورويجا" على أنه الشيطان وعدو الشعب وتاجر المخدرات البشع. هكذا بررت واشنطن غزوها الكاسح لدولة يقطنها مليونا نسمة.

 

- كانت هذه هي المرة الأولى التي تقوم الولايات المتحدة بغزو دولة أخرى واعتقال قائدها وإرساله إلى الأراضي الأمريكية ليواجه المحاكمة والسجن بحجة انتهاكه للقانون الأمريكي على أرض بلده وداخل نفوذه الوطني.



- مهد الغزو الطريق أمام الأمريكيين لتحقيق الكثير من أهدافهم السياسية والاقتصادية، وذلك من خلال تنصيب حكومات صورية، لتستعيد واشنطن مرة أخرى السيطرة على واحد من أهم الممرات المائية في العالم، متجاهلة المضمون القانوني للمعاهدة.

 

- وهكذا يبقى زيف "الأهداف النبيلة" التي تعلنها السياسة لتحقيق المصالح ليس سوى "سراب" الصحراء الذي يخدع كل من يراه وربما يؤمن به تماما، لكن يبقى غير المعلن والمتفق عليه خلف الأبواب المغلقة هو الحقيقة كلها والتي لا تكون متاحة إلا لقلة لا تتنازل عنه ولا تفصح عنه في ذات الوقت لبلوغ الأهداف.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة