نبض أرقام
01:10
توقيت مكة المكرمة

2024/08/25
2024/08/24

كيف تحول أعظم مشروع هندسي في القرن الـ20 إلى كارثة مالية؟ .. دروس مجانية في إدارة المشاريع الضخمة

2017/12/09 أرقام - خاص

بعد ظُهر السابع من أبريل/نيسان من عام 2004، اجتمع مساهمو شركة "يورو تانل" في مركز للمؤتمرات بالقرب من مطار "شارل ديجول" بالعاصمة الفرنسية باريس، للتصويت على قرار مصيري: إقالة مجلس الإدارة.
 

كان مساهمو الشركة المشغلة لنفق القنال الإنجليزي غاضبين جداً من إدارة الشركة بعد أن انخفضت قيمة أسهمهم بأكثر من 90% مقارنة بأعلى سعر وصلت إليه، وألقوا باللوم كذلك على الحكومتين الفرنسية والبريطانية لتشجيعهما على الاستثمار في المشروع الذي تحول إلى كارثة مالية.



 

لم تستطع الصناديق التقاعدية والمؤسسات المالية التي تمتلك أسهمًا بالشركة الوقوف إلى جانب مجلس الإدارة في مواجهة نحو مليون مستثمر من صغار المستثمرين الفرنسيين الذين كانوا يمتلكون ما يقرب 65% من أسهم الشركة، لتتم الإطاحة بمجلس الإدارة في محاولة يائسة لإنقاذ الشركة وقيمة أسهمها، بعد أن وصلت ديونها إلى نحو 11 مليار دولار.
 

بالنسبة للكثيرين، ما حدث يبدو دراما سخيفة. فنفق القنال الذي يربط بين إنجلترا وفرنسا ربما هو أفضل إنجاز هندسي تم في القرن العشرين، ويمر في نفس الوقت تحت أشد ممرات الشحن ازدحاماً في العالم، فكيف يمكن أن يكون صاحبه في أزمة مالية؟ الجواب يشمل مزيجا من الفشل السياسي والمالي بدأ في اللحظة التي ولد فيها المشروع.
 

"تاتشر" تبتسم أخيرًا في وجه أوروبا
 

- البداية كانت في قمة باريس في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1984، وهي حقبة كان ضعف مساهمة بريطانيا في ميزانية الاتحاد الأوروبي يمثل مصدرًا للشكوى السنوية. غير أنه بفضل مفاوضات ناجحة قادها الرئيس الفرنسي " فرنسوا ميتيران" وافقت رئيسة الوزراء البريطانية "مارجريت تاتشر" في لحظة حماس نادرة منها ناحية أوروبا، على مشاركة بلادها في مشاريع تعاونية أوروبية.

 

- في ليلة طويلة من المناقشات التي جرت في مقر السفارة البريطانية بباريس، استمعت "تاتشر" لآراء عدد من أعضاء مجلس وزرائها حول فكرة مشاركة بريطانيا في مشروع يربطها بفرنسا. وفي اليوم التالي أعلنت بريطانيا أنها تدعم فكرة إجراء دراسة جدوى للمشروع، قبل أن تفصح عن شرطها الوحيد، وهو أن يتم تمويل المشروع بالكامل من قبل القطاع الخاص.



- في هذه المرحلة لم يكن الحديث عن نفق، بل مجرد وصلة ثابتة. ومع فتح باب تقديم عروض المشاركة بالمشروع، تقدم تحالف يقوده السير "نايجل برواكز" رئيس مجموعة "ترافلجار هاوس" بتصميم يشمل جسرا ونفقا، وكان ذلك هو التصميم الأكثر طموحاً من الناحية الهندسية، ويبدو أن هذا ما كان يفضله الفرنسيون.

 

- لكن على الجانب البريطاني، كان وزير النقل "نيكولاس ريدلي" يدعم تحالفا يقوده رجل الأعمال الأمريكي "جيمس شيروود" الذي كانت أعماله في قطاع الشحن البحري مهددة بالمشروع، أيًا كانت طبيعة الرابط الذي سيتم بناؤه. وكان تصميم "شيروود" يشمل طريقًا بريًا يربط بين الجارتين الأوروبيتين، وهو الاقتراح الذي حظي بدعم من العامة في استطلاعات الرأي.

 

- في نهاية المطاف، فاز بالمشروع مرشح توافقي، وهي مجموعة "يورو تانل"، التي كانت عبارة عن تحالف يضم 10 مقاولين وخمسة بنوك، وكان التصميم المقترح من جانبهم عبارة عن نفق سكة حديد مزدوج المسار. ويبدو أن التكلفة والبساطة النسبية للتصميم كانا هما العاملين الحاسمين.

 

- كان النفق المقترح من جانب "يورو تانل" يبلغ طوله 51.5 كم، على أن يناسب كل من القطارات الخاصة وقطارات الشحن، بينما بلغت قيمة العرض 5.5 مليار دولار. وتم توقيع معاهدة "كانتربري" في فبراير/شباط عام 1986، والتي نصت على أن يتم تمويل المشروع من قبل القطاع الخاص دون أي دعم أو ضمانات حكومية.

 

- تم جمع التمويل من خلال قروض من حوالي 206 بنوك من جميع أنحاء العالم، وهذا ما أدى إلى تداعيات سلبية على الشركة المشغلة في وقت لاحق، بسبب فشلها من البداية في تقدير الوقت والتكلفة، وهو ما أضعف قدرتها على خدمة الديون.

 

- ثمة اعتبار آخر مهم، وهو أنه تم منح "يورو تانل" حق الامتياز لمدة 55 عاماً، وبالتالي فإن أي تأخير أو زيادة في التكاليف أثناء تشييد المشروع من شأنها التأثير على التدفقات النقدية المتوقعة خلال تلك الفترة.
 

التسرع .. سبب كل كارثة
 

- تم افتتاح نفق القنال رسمياً في مايو/أيار عام 1994، أي متأخرًا عن الموعد المخطط بنحو عام، بينما اقتربت تكلفته من 3 أضعاف التقديرات الأولية، لتصل إلى نحو 14.9 مليار دولار.

 

- تحول المشروع إلى كابوس مالي بالنسبة لتحالف "يورو تانل" الذي كان يضم عدداً كبيراً من الشركات ذات المصالح المتضاربة، والتي اضطرت لاحقاً إلى الاقتراض بمعدلات فائدة مرتفعة بمجرد أن تجاوز المشروع ميزانيته الأصلية.



- كما هو الحال دائمًا في المشاريع الضخمة الفاشلة، تم التسرع في مرحلة الإعداد. حيث إنه تم فتح الباب أمام تقديم العطاءات في أبريل/نيسان 1985، ولم يكن لدى الأطراف المعنية سوى 7 أشهر لإعداد عروضهم قبل الموعد النهائي في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام.

 

- أعطت الحكومة البريطانية لنفسها 3 أشهر فقط للنظر في العروض المقدمة قبل الإعلان عن العرض الفائز في يناير/كانون الثاني 1986، وكان هذا جدولاً زمنياً غاية في الاستهتار بالنسبة لمشروع بهذه الضخامة.

 

- بسبب هذا التسرع ظهر لاحقاً الكثير من أوجه الخلل بالتصميم الذي تمت الموافقة عليه. على سبيل المثال فشل المصممون في التنبؤ بأن حركة القطارات عالية السرعة ستولد حرارة كبيرة في النفق نتيجة الاحتكاك بالهواء، ليتم لاحقاً إضافة نظام تكييف الهواء المبرد بالماء إلى التصميم بتكلفة بلغت نحو 200 مليون دولار.
 

فشل في تقدير المنافسين
 

- في عام 2003، اعترف "جيوم بيبي" المسؤول السابق بالشركة الوطنية للسكك الحديدية الفرنسية أن التوقعات الأصلية للمشروع كانت تشير إلى أن القطارات المارة بالنفق ستقل حوالي 17 مليون شخص في عام 2003، غير أن الرقم الفعلي تجاوز بالكاد سبعة ملايين. كما أشار إلى أنه إذا كانت التنبؤات دقيقة من البداية لم يكن ليتم التفكير بهذا المشروع.

 

- توقعت الشركة المنفذة للمشروع أنها ستضيق الخناق على العبارات وتسيطر على جزء كبير من حصتها في سوق النقل عبر المانش، غير أن ما حدث هو أن العبارات ظلت تسيطر على 50% من السوق حتى بعد 10 سنوات من افتتاح المشروع.

 

- السبب ببساطة، هو أن أغلب الركاب كانوا يفضلون السفر بين البلدين في رحلة مدتها ساعة ونصف على متن عبارة يستمتعون خلالها بالإطلالات الساحرة للمنحدرات الجبلية، على رحلة مدتها نصف ساعة في عربة قطار قاتمة نوافذها صغيرة، لم يكن بوسع المسافرين على متنها لمح البحر ولو للحظة، وهو خطأ آخر من قبل المهندسين المعماريين الذين صمموا النفق.



- زادت الأمور سوءًا مع توسع شركات الطيران، وتوفيرها رحلات منخفضة التكلفة بين لندن وباريس، وكانت معظمها أرخص بكثير من قيمة تذاكر القطارات المارة عبر النفق.

 

- 43 % من القدرة التشغيلية للنفق غير مستخدمة حالياً، وذلك بحسب الموقع الرسمي للمفوضية الأوروبية. وفي نفس الوقت تستمر حركة قطارات الركاب المارة عبر النفق في النمو ببطء خلال السنوات الأخيرة، حيث استخدم 9.9 مليون مسافر النفق في عام 2012، مقارنة مع 9.7 مليون في عام 2011.

 

- بيد أن حركة الشحن بالسكك الحديدية آخذة في الانخفاض. حيث لم يمر سوى 2325 قطار شحن عبر النفق في عام 2012، وذلك انخفاضاً من 2388 قطارا في عام 2011 و2718 قطارا في عام 2008.

 

- أخيرًاً، يعتبر نفق القنال بلا شك أحد أهم الإنجازات الهندسية في التاريخ، وهو ما دفع البعض للإشارة إليه كواحد من عجائب الدنيا السبع، غير أن كل ذلك لا ينفي حقيقة أنه فاشل من الناحية المالية، وأنه لم يحقق تطلعات الأطراف المشاركة به، وذلك بسبب التسرع وسوء التقدير.

 

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة