نبض أرقام
22:34
توقيت مكة المكرمة

2024/07/03

التعليم .. دليل الانتقال من العالم الثالث إلى الأول

2018/01/13 أرقام - خاص

لماذا يكسب معظم العاملين الحاصلين على شهادات جامعية أكثر بكثير من أولئك الذين لا يحملون أية شهادات؟ كيف يرتبط النظام التعليمي في أي دولة بأدائها الاقتصادي؟ إن معرفة كيفية تفاعل التعليم والتدريب مع الاقتصاد يمكنها أن تساعدنا على فهم أفضل لأسباب ازدهار بعض الاقتصادات وتعثر أخرى.
 

الاقتصاد الناجح دائمًا ما يكون لديه قوة عاملة قادرة على تشغيل مختلف الصناعات بكفاءة عالية، وتصبح البلد أكثر إنتاجية كلما زادت نسبة العمال المتعلمين، حيث إن هؤلاء هم القادرون على القيام بالمهام الأكثر كفاءة التي تتطلب مستوى تعليمياً جيداً وقدرة على التفكير النقدي.



 

وفي الواقع، تشير الكثير من الدراسات إلى أن البلدان التي لديها نظم تعليمية جيدة وبالتبعية نسبة أكبر من العمال الذين يتمتعون بمستوى جيد من التعليم، تتمكن من تحقيق معدلات نمو أسرع من البلدان ذات العمالة الأقل تعليماً.
 

ونتيجة لذلك، توفر الكثير من البلدان التمويل والدعم اللازمين للتعليم الابتدائي والثانوي من أجل تحسين الأداء الاقتصادي. وبهذا الشكل، يعتبر التعليم استثمارًا في رأس المال البشري، على غرار الاستثمار في المعدات الحديثة.
 

وفي هذا التقرير، سنستعرض كيف تمكنت نقطة حمراء صغيرة على الخريطة – كما يشير السنغافوريون في كثير من الأحيان إلى بلدهم – عبر التعليم الجيد من الانتقال من العالم الثالث إلى الأول في غضون عقود قليلة، ونحاول تقديم بعض الإجابات على الأسئلة المطروحة بالأعلى.
 

لا يوجد وقت لإضاعته
 

عندما حصلت سنغافورة على استقلالها في عام 1965، كانت مجرد جزيرة استوائية فقيرة وصغيرة (حوالي 700 كلم مربع)، ليس لديها الكثير من الموارد الطبيعية، وكميات قليلة من المياه العذبة، ونمو سكاني سريع.
 

كان السؤال الذي خطر في أذهان الكثير من المراقبين الدوليين في ذلك الوقت: هل ستستطيع سنغافورة النجاة، بعد أن ترك الاحتلال الياباني اقتصادها مدمراً قبل أن يخرج منها في عام 1945 لتعود البلاد مرة أخرى إلى أيدي البريطانيين؟
 

لم يكن لديها اقتصاد حقيقي أو جيش نظامي يحميها في ظل التوترات القائمة في ذلك الوقت مع الكثير من البلدان المجاورة، وعلاوة على ذلك كان عليها أن تستورد كافة احتياجاتها من الغذاء والماء والطاقة.

 

كانت المهمة شاقة على "لي كوان يو" الذي انتخب ليصبح أول رئيس وزراء للبلاد في عام 1959. ولكن "لي" لم يضع الوقت في رثاء قلة موارد بلاده وضعف بنيتها التحتية، وقام بالاستعانة بمن اعتقد أنهم أفضل وألمع العقول في سنغافورة، والذين لم يكن لديهم أي نية لاستغلال الوضع من أجل منافعهم الخاصة.
 

أو على حد قول "لي" نفسه في مذكراته، "لم نحاول تخليد ذكرانا من خلال إعادة تسمية الشوارع أو المباني بأسمائنا، أو وضع صورنا على الطوابع البريدية أو أوراق العملة". وإنما عمد هو ورفاقه إلى تطوير تدابير اجتماعية واقتصادية من شأنها أن تضمن بقاء أمة متعددة الأعراق والديانات واللغات.



 

رأى "لي" ورفقاؤه أنهم إذا أرادوا الخروج ببلادهم من هذا المأزق، فهناك أولويتان فوريتان تحتاجان إلى جل تركيزهم. أولاً من أجل خلق كيان اقتصادي قادر على المنافسة، ينبغي عليهم تجنب الاعتماد طويل الأجل على التجارة الحرة، والشروع في إستراتيجية التصنيع الموجه نحو التصدير، وثانياً، إنشاء قوة عسكرية وطنية.
 

في سعيها لإنتاج برنامج صناعي قادر على الاستمرار، قامت سنغافورة من خلال وزارة التربية والتعليم بتوسيع نطاق إمكانية حصول جميع السنغافوريين على التعليم الابتدائي بسرعة، لأن ذلك من شأنه أن يخلق قوة عاملة شابة تتمتع بحد أدنى من التعليم يمكنها دعم نشاط المصانع كثيفة العمالة.
 

نظر السنغافوريون من البداية إلى التعليم على أنه محرك رأس المال البشري الذي يمكنه دفع عجلة النمو الاقتصادي، كما أن نجاح الحكومة في التوفيق بين العرض والطلب على التعليم والمهارات كان سببًا رئيسيًا في الميزة التنافسية التي تتمتع بها سنغافورة.
 

بدأ بناء الكثير من المدارس بسرعة، وتدريب أعداد كبيرة من المعلمين لترتفع معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائي والثانوي. كما ركزت المناهج الدراسية على العلوم والرياضيات والسلوكيات الأخلاقية. ورغم ذلك، كان النظام التعليمي لا يزال يفتقر إلى الجودة. ومن جانبه لم يضع "لي" الوقت وعمد إلى حل المشكلة.
 

نقطة تحول
 

في عام 1978، قام فريق من مهندسي النظام السياسي بقيادة نائب رئيس الوزراء السنغافوري آنذاك "جوه كنج سوي" بإجراء مراجعة شاملة لنظام التعليم في البلاد، وفي ما يُعرف شعبياً باسم تقرير "جوه"، تمت التوصية بإجراء عدد كبير من التغييرات هدفها الرئيسي رفع كفاءة النظام التعليمي.
 

في يونيو/حزيران 1979، قاد "لي" بعثة سنغافورية رفيعة المستوى إلى بريطانيا، من أجل بحث سُبل الاستفادة من الخبرة البريطانية في تعزيز كفاءة نظام التعليم السنغافوري، وكان على رأس جدول أعمال البعثة، بحث إمكانية توظيف عدد أكبر من معلمي اللغة الإنجليزية.
 

اعتقد "لي" أن دعم النظام التعليمي السنغافوري بمجموعة كبيرة من معلمي اللغة الإنجليزية والمتخصصين في تطوير المناهج الدراسية سيؤدي إلى تحسين معايير التدريس، وسيكون له أيضًا انعكاسات مجتمعية، تتمثل في سد الفجوات الموجودة بين فئات الشعب.



 

يقول "لي" في تصريحات لـ"نيويورك تايمز" في عام 2007: " من بين الأمور التي كنا نعلم أن ثمنها سيكون باهظاً، هو تحولنا إلى اللغة الإنجليزية. فقد كانت لدينا مدارس صينية وماليزية وهندية ومدارس بلغات أخرى، ولو كنا اخترنا الصينية التي كانت لغة الأغلبية، لكنا هلكنا اقتصادياً وسياسياً".
 

في الوقت نفسه، لم تُهمل سنغافورة التعليم المهني، وقامت بإصلاحات جذرية في هذه الناحية، خاصة بعد الانسحاب العسكري البريطاني في عام 1971، وهو ما خلق حاجة ملحة لعمالة ماهرة يمكنها شغل المواقع التي كان يشغلها العمال البريطانيون المهرة.
 

أشار تقرير وزاري صدر في عام 1968 إلى وجود فجوة متزايدة بين معدل الالتحاق بالمدارس الأكاديمية ونظيرتها المهنية. ففي حين كانت نسبة طلاب الأكاديميين إلى الفنيين في اليابان تساوي 3 إلى 2 كانت النسبة في سنغافورة 7 إلى واحد.
 

لإصلاح هذا الخلل، أعلنت وزارة التعليم السنغافورية أنه اعتبارًا من عام 1969، سيحصل جميع الطلاب بالمدارس الثانوية على سنتين من التعليم الفني الإلزامي قبل أن تترك لهم حرية الاختيار بين التعليم المهني أو التجاري أو الأكاديمي.
 

بحلول أوائل التسعينيات، حقق نظام التعليم السنغافوري القائم على الكفاءة نتائج أكثر من جيدة، ولكن كما اتضح خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، كان الاقتصاد العالمي يتحول إلى اقتصاد معرفي، لذلك كان على سنغافورة تطبيق أفكار جديدة وهو ما تطلب نقلة نوعية في نظام التعليم تدفعه ناحية التركيز على الابتكار والإبداع والبحث.
 

تنسيق وتناغم
 

كانت الأداة الرئيسية التي ساعدت سنغافورة في الانتقال نحو الاقتصاد المعرفي هي الوكالة الحكومية للعلوم والتكنولوجيا والبحوث (A*STAR)، والتي وفرت تمويلاً سخيًا للبحوث، بهدف جذب كبار العلماء والشركات من جميع أنحاء العالم.
 

تم تشجيع ما يقرب من مليون مواطن أجنبي يتمتعون بمهارات علمية وإدارية عالية على العمل في سنغافورة. أما الجامعات الثلاث التي تمتلكها البلاد، وخصوصا جامعتي سنغافورة الوطنية ونانيانغ التكنولوجية، فقد عقدت شراكات بحثية مع أبرز الجامعات في العالم، مع التركيز على مجالات محددة من بينها المعلوماتية الحيوية وعلم المعلومات والتقنيات الطبية.
 

مع بداية الألفية الجديدة، أصبحت سنغافورة إحدى دول العالم الأول، مع وصول نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 23.793 ألف دولار، مقارنة مع 516 دولارا عام 1965.
 

تعتبر سنغافورة إحدى أبرز قصص النجاح الكبيرة في آسيا، حيث استطاعت الدولة المدينة أن تحول نفسها من بلد نام ينتمي إلى العالم الثالث إلى اقتصاد صناعي حديث في غضون عقود قليلة.



 

خلال العقد الماضي، حافظ نظام التعليم في سنغافورة بثبات على موقعه على قمة معظم التصنيفات العالمية الكبرى في التعليم، وإن تنازل عنها في بعض التصنيفات، فهو لا يبتعد بأي حال عن المراكز الخمسة الأولى.
 

التصريحات المتتالية من قادة سنغافورة حول أهمية التعليم، لم تكن أبدًا مجرد خطاب سياسي كما هو الحال في بعض البلدان، فقد رافقها دائمًا الاستعداد لاستثمار موارد مالية كبيرة في العملية التعليمية، حيث ارتفع الإنفاق على التعليم إلى ما يعادل 3.6% من الناتج المحلي للبلاد في عام 2010، أي ما يقرب من 20% من إجمالي الإنفاق الحكومي.
 

أخيراً، أحد أهم أسباب نجاح التعليم في سنغافورة، هو تمتعها بقدر عالٍ من المؤسسية، وهو ما يؤدي إلى اتساق السياسات، وتحرك كافة الأطراف المعنية في الحكومة نحو هدف واحد، بل ويمتد هذا التناغم والاتساق ليشمل مختلف المؤسسات، الحكومية وغير الحكومية، ويتقاسم الجميع المسؤولية والمساءلة، وفي ظل نظام كهذا، من المستحيل أن يتم الإعلان عن أي سياسة جديدة دون وجود خطة واضحة المعالم لكيفية تنفيذها.

 

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة