في خطاب ألقته في عام 2009 حينما كانت تشغل رئاسة بنك الاحتياطي الفيدرالي بسان فرانسيسكو، تحدثت رئيسة الاحتياطي الفيدرالي التي تقترب ولايتها من الانتهاء "جانيت يلين" عن الدروس التي قدمها الاقتصادي الأمريكي "هيمان مينسكي" لمسؤولي البنوك المركزية قائلة: "إن الأحداث الدرامية التي وقعت خلال العام ونصف العام الماضيين هي حالة كلاسيكية من الانهيار النظامي لم يشر إليها أو يتصورها سوى "مينسكي" وعدد قليل نسبياً من الاقتصاديين الآخرين".
طوال حياته الأكاديمية التي بدأت في الخمسينيات وانتهت بوفاته في عام 1996، اجتذبت دراسات وأبحاث "هيمان مينسكي" حول الأزمات المالية وأسبابها، عددا قليلا جداً من المهتمين والمتابعين، ولم تستشهد بنظرياته سوى إحدى الصحف لمرة واحدة فقط حينما كان لا يزال على قيد الحياة، غير أنها لم تكن سوى إشارة موجزة.
وظل الحال هكذا إلى عام 2007، حين ظهرت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، حيث بدأ الجميع فجأة بالرجوع إلى كتابات الرجل لمحاولة فهم الفوضى التي اتسم بها الوضع في ذلك الوقت، ودأب مسؤولو البنوك المركزية على الإشارة إلى نظرياته في خطاباتهم.
أصبح "هيمان مينسكي" نجماً في وسائل الإعلام بعد وفاته، وبدأ أشهر كتاب الرأي الاقتصادي في الإشارة بشكل دوري إلى نظرياته في أعمدتهم الصحفية. "الإيكونوميست" وحدها أشارت إلى اسمه 30 مرة على الأقل في الفترة ما بين عامي 2007 و2016.
ولقد مضى ما يقرب من عقدين من الزمن منذ أن أطلق الاقتصادي الأمريكي "بول مكولي" عبارة "لحظة مينسكي"، لوصف الأزمة المالية في روسيا عام 1998، أي بعد عامين تقريباً من وفاة "مينسكي".
و"لحظة مينسكي" تشير باختصار إلى الانهيار الكبير المفاجئ في قيم الأصول نتيجة الانخفاض الحاد والمباغت الذي تشهده معنويات السوق وبالتبعية الإنتاجية الاقتصادية، بعد فترة طويلة من التفاؤل والاستقرار.
واليوم تعود نظريات "مينسكي" إلى الواجهة مرة أخرى، بعد أن حذر محافظ بنك الشعب الصيني من مخاطر انزلاق اقتصاد بلاده إلى "لحظة مينسكي"، مستشهداً بالارتفاع النسبي لديون الشركات، والتزايد المتسارع للاقتراض من قبل الأسر.
المضاربة .. العامل المشترك في كل كارثة
في "فرضية عدم الاستقرار المالي" التي نشرها عام 1992، أوضح "مينسكي" كيف يمكن أن تتراكم مخاطر الديون خلال فترات النمو، لتتجاوز الحد الآمن في اقتصاد يبدو مستقراً على خلاف الحقيقة.
الفترات التي تشهد معدلات نمو اقتصادي قوية، مثل تلك التي عاشتها الولايات المتحدة في الفترة ما بين عامي 1993 و2001، يصاحبها عادة انخفاض معدل البطالة، وتوافر واسع النطاق للائتمان، وارتفاع أسعار الأصول، وتوقع عام بأن يستمر الحال على ذات الوتيرة في المستقبل المنظور.
لسوء الحظ، تميل الفترات الطويلة من الاستقرار النسبي إلى تشجيع أنشطة المضاربة في السوق، ويبدأ المضاربون في الاستثمار في الأصول بأموال لا يملكونها، بسبب اعتقادهم بأن الأسعار لن تنخفض أبداً، أو على الأقل في المستقبل القريب.
تزداد المضاربات ويزداد معها حجم الأموال المقترضة، وبمجرد أن تتحول أسعار الأصول إلى الاتجاه المعاكس وتبدأ في الانخفاض لفترة طويلة، تتأثر سلباً قدرة المستثمرين على سداد ديونهم، ويدخل الاقتصاد في "لحظة مينسكي".
شهد الاقتصاد الأمريكي "لحظة مينسكي" مع بداية أزمة الائتمان في عام 2008، بسبب موافقة البنوك – على نحو غير مسؤول – على إعطاء قروض رهن عقاري لمقترضين تعلم مسبقاً أنهم لن يستطيعوا سدادها، ليواجه النظام المصرفي الأمريكي مستويات غير مسبوقة من الإعسار كانت لها عواقب سيئة على النمو الاقتصادي وسوق العمل.
شبح فقاعة أسعار الأصول اليابانية يلاحق الصينيين
"إن السكن للعيش وليس للقمار". هذا ما قاله الرئيس الصيني في خطابه الذي استمر لأكثر من 3 ساعات في أكتوبر/تشرين الأول خلال افتتاح الحزب الشيوعي الحاكم لمؤتمره الذي يعقد مرتين كل عقد.
وصلت ديون الأسر والشركات في الصين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى نفس المستوى الذي سجلته اليابان في أوائل التسعينيات، حين انفجرت فقاعتها، بسبب تزايد أنشطة المضاربة وسط ثقة وتفاؤل مفرطين بشأن الأسعار المستقبلية للأصول.
نتيجة للتوسع غير المسبوق في الائتمان، تعادل قيمة قطاع الإسكان في الصين تقريبا أكثر من 250% من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة مع 200% في اليابان في عام 1990 – أعلى نسبة وصلت إليها قبل انفجار الفقاعة – وفي مقابل 170% في الولايات المتحدة في عام 2006 قبيل أزمة السكن.
"هذا المستوى لم يسبق له مثيل في التاريخ"، وذلك وفقاً لبنك "كريدي سويس" الذي أشار أيضاً إلى أن الرقم الحقيقي ربما يقترب من 400% إذا تم احتساب المساكن قيد الإنشاء.
رغم الضجة الإعلامية المثارة منذ سنوات حول برنامجي التيسير الكمي الخاصين بالولايات المتحدة واليابان، إلا أن متوسط النمو السنوي للمعروض النقدي لم يتجاوز 6% لدى الأولى و0.5% لدى الأخيرة، بينما بلغت النسبة 16% في الصين.
من المتوقع أن يصل إجمالي ديون الشركات والأسر في الصين إلى 300% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بحلول عام 2020، ارتفاعاً من 242% في عام 2016، وهذا ما دفع وكالات التصنيف الائتماني الكبرى ("إس آند بي" و"موديز" و"فيتش") إلى تخفيض التصنيف الائتماني للصين هذا العام.
هل "لحظة مينسكي" الصينية تلوح في الأفق؟ الكثير من الشواهد تشير إلى أن احتمال فقدان الاقتصاد الصيني لقدرته على خدمة هذا الكم المرعب من الديون غير مستبعد، وربما أصبح أكثر قرباً من أي وقت مضى.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}