في ديسمبر/كانون الأول من عام 1902 فرضت ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا حصارًا بحريًا على فنزويلا التي تعثرت في سداد ديونها الخارجية للقوى الغربية، واصطفت السفن الحربية التابعة للدول الثلاث على الساحل وقامت بقصف الأراضي الفنزويلية.
- في ذلك الوقت، كان التجار الألمان يهيمنون على قطاع الاستيراد والتصدير والنظام المصرفي غير الرسمي في فنزويلا، ويمتلكون إلى جانب المستثمرين البريطانيين جزءا غير ضئيل من سندات الحكومة الفنزويلية.
- كان البريطانيون يحصلون على فائدة سنوية قدرها 3% على ديونهم التي يعود تاريخها إلى عام 1881، في حين أن الفائدة السنوية التي كان يحصل عليها الألمان كانت تساوي 5%. وفي عشية التدخل العسكري، كانت قيمة هذين القرضين تساوي 2.6 و1.9 مليون إسترليني على الترتيب.
هل خذل الأمريكان الفنزويليين؟
- رغم اصطفاف الأساطيل الحربية للدول الثلاث أمام ساحل بلاده لم يعبأ الرئيس الفنزويلي في ذلك الوقت "سيبريانو كاسترو" بهذه التهديدات، لأنه كان على يقين بأن الولايات المتحدة لن تسمح لتلك القوى بأن تخطو خطوة واحدة على أي شبر من أراضي أمريكا الجنوبية بسبب "مبدأ مونورو".
- "مبدأ مونرو" سمي بهذا الاسم نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمس مونرو" ونص على ضمان استقلال كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، وعلى أن أي محاولة من الدول الأوروبية لاستعمار الأراضي أو التدخل في شؤون دول الأمريكتين ستعتبره الولايات المتحدة عملاً عدائياً يتطلب تدخلا أمريكيا.
- لكن على عكس ما توقع "كاسترو"، لم يكن لدى الأمريكان أي مشكلة على الإطلاق مع هذا التحرك العسكري، وهذا ما أوضحه له سفير واشنطن في كاراكاس، حين حذره قائلًا "أنتم مدينون لهم بالمال، وعاجلًا أو أجلًا ستدفعون".
- أما الرئيس الأمريكي "ثيودور روزفلت" فلم يترك مجالًا للشك، وقال في خطاب له أمام الكونجرس "إذا أساء أي بلد من بلدان أمريكا الجنوبية التصرف تجاه أي بلد أوروبي، فلندع الأوروبيون يؤدبونه".
كيف امتلك الألمان الديون الفنزويلية؟
- بدأ الألمان الاستثمار في السندات الفنزويلية في عام 1887، عندما منحت فنزويلا شركة إنتاج الصلب وتصنيع الذخائر والأسلحة الألمانية الشهيرة "كروب" امتيازًا لبناء خط سكة حديد يربط بين كاراكاس وفالنسيا.
- في العام التالي تخلت "كروب" عن الامتياز لصالح بنكي "ديسكونتو جيسيلزشافت" و"نورديوتشه" الألمانيين. أسس البنكان "شركة فنزويلا العظمى للسكك الحديدية" وبدآ في تمويل المشروع.
- تطور العمل في المشروع ببطء بسبب الانهيارات الأرضية والسدود المتهدمة والصعوبات غير المتوقعة التي واجهتهم أثناء شراء الأراضي من العامة. وعندما تم الانتهاء من تشييد الخط الذي بلغ طوله 180 كيلو متراً في عام 1894، بلغت التكلفة الإجمالية للمشروع حوالي 62 مليون مارك ألماني، أي أكثر من ضعف التقديرات الأصلية.
- في الامتياز الأصلي الذي حصلت عليه "كروب" قبل أن تقوم ببيعه، التزمت الحكومة الفنزويلية بدفع فائدة سنوية قدرها 7% على تكلفة المشروع. وكان من المقرر أن تبدأ المدفوعات في عام 1894، مع افتتاح المشروع.
- لكن الفنزويليين تعثروا ولم يستطيعوا خدمة هذا الكم الهائل من الديون، وبعد ذلك بعامين وتحديدًا في عام 1896، قامت الحكومة بإعادة رسملة الضمانات المتأخرة والمستقبلية للمشروع، من خلال طرح سندات جديدة بفائدة سنوية قدرها 5%، تم تمويلها من قبل بنك "ديسكونتو جيسيلزشافت" الألماني.
- بدأت فنزويلا في دفع فوائد تلك القروض ولكن هذا لم يستمر طويلًا، حيث لم تستطع الحكومة الفنزويلية الانتظام في دفع تلك الفوائد بداية من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1897، وفي أغسطس/آب عام 1901 توقفت المدفوعات تمامًا بعد أن أعلنت البلاد عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها.
خلف الكواليس
- البرقيات والمراسلات الدبلوماسية الألمانية الخاصة بتلك الحقبة تكشف بعضًا مما كان يدور خلف الكواليس. بعد فترة وجيزة من إعلان فنزويلا عدم قدرتها على سداد الديون، طلب المستثمرون الألمان من حكومتهم اتخاذ إجراءات ضد فنزويلا، ولكن وزير الخارجية الألماني "أوزوالد فون ريتشوفن" رفض الفكرة لأن فنزويلا لم تنكر التزاماتها وإنما تدفع فقط بأنها لا تمتلك ما يكفي من المال للسداد.
- لكن عشية التدخل العسكري، استعرض المستشار الألماني "برنارت فون بولوف" المظالم التي تراكمت ضد فنزويلا، وشدد على الخسائر التي عانى منها المواطنون الألمان في فنزويلا خلال الحرب الأهلية، قبل أن يشير في خطابه على استحياء إلى مسألة السندات. ولكن في وقت لاحق من نفس الشهر أعلنها "بولوف" واضحة: "التدخل العسكري الألماني كان من أجل تحصيل ديون تجارية".
- في منتصف عام 1901، ناقش "بولوف" مع البحرية الألمانية جدوى فرض حصار بحري على فنزويلا، وحينها أوصى قائد سلاح البحرية الأدميرال "أوتو فون ديدريشس" باحتلال العاصمة كاراكاس إذا لم ينجح الحصار.
- في بريطانيا، تقدم حاملو السندات الفنزويلية إلى حكومتهم بالتماسات من أجل الحصول على المساعدة. في واحدة من تلك الالتماسات، كتبت واحدة من كبرى المؤسسات المالية في لندن إلى وزير الخارجية الإنجليزي "اللورد ستانلي" في خريف عام 1867: "لقد حان الوقت لكي تتخذ حكومة صاحبة الجلالة تدابير فعالة ضد حكومة فنزويلا تجبرها على الوفاء بالتزاماتها تجاه الرعايا البريطانيين".
- بعد سنوات تدخلت بريطانيا عسكريًا في فنزويلا من أجل تحصيل الديون، وفي ذلك الوقت بررت صحيفة "ديلي تلغراف" الهجوم من خلال التأكيد على حق الدولة في تحصيل الديون التي يمتلكها مواطنيها بالقوة من دولة أخرى.
- أعرب بعض المراقبين عن خوفهم من عواقب هذا التحرك والذي بدا وكأنه مذهب جديد، وأكد النائب البريطاني "أيرل سبنسر" في خطاب له أمام مجلس اللوردات أنه إذا كانت الحكومة تستخدم القوة لتسوية الديون الخاصة فإن ذلك سيمثل "عقيدة خطيرة جدا وجديدة تماما". ولكن في المقابل رحب آخرون بهذه الخطوة وأعربوا عن شكرهم للحكومة البريطانية على مساعدتها لحاملي السندات.
فنزويلا تخضع في النهاية
- الألمان كانوا أصحاب فكرة التدخل العسكري، ولكن البريطانيين شعروا بالقلق من أن بريطانيا العظمى سوف تبدو بمظهر سيئ إذا فشلت في الدفاع عن مصالح رعاياها، في حين أن ألمانيا تعتني بمصالح مواطنيها. وبهذه الطريقة بدأ الحديث حول عمل عسكري مشترك.
- بعد أن ضربت السفن الحربية الألمانية والبريطانية حصارها على الساحل الفنزويلي، قطعت برلين ولندن علاقاتهما الدبلوماسية مع فنزويلا، وأصدرتا إنذارًا نهائيًا في السابع من ديسمبر/كانون الأول عام 1902.
- إلى جانب عدة مطالب غير قابلة للتفاوض، دعت الدولتان الغربيتان فنزويلا في إنذارها إلى التوصل إلى اتفاق جديد مع حاملي السندات من البلدين. وتم إعطاء فنزويلا مهلة قدرها 48 ساعة قبل القيام بعمل عسكري فوري.
- لم يستجب رئيس البلاد للإنذار، وبدأت الحرب في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 1902، وخلال الأسابيع اللاحقة، أغرقت بريطانيا وألمانيا عدة سفن فنزويلية واستولت على أخرى، وحاصرت الموانئ الفنزويلية الخمسة الرئيسية والمخرج الرئيسي لنهر أورينوكو، وقصفت الحصون على طول الساحل الفنزويلي.
- لاحقًا انضمت سفينتان حربيتان إيطاليتان إلى الحصار. وبحلول فبراير/شباط 1903، اتفقت جميع الأطراف على وساطة ترعاها الولايات المتحدة، ورفعت الدول الثلاث حصارها.
- انتهت الأزمة رسميًا ببروتوكول واشنطن الموقع في الـ13 من فبراير/شباط عام 1903 الذي تعهدت فيه الحكومة الفنزويلية بالدخول في اتفاق جديد تلتزم خلاله بسداد ديونها الخارجية لحاملي سنداتها، كما أرغمت على تحديد مصادر الأموال التي ستستخدمها في تغطية مدفوعات هذه الديون.
- بعد أكثر من عامين من المفاوضات، توصلت فنزويلا إلى اتفاق مع المستثمرين البريطانيين والألمان وتمت إعادة جدولة الديون، بعد أن تم احتساب فوائد التأخير إلى جانب القيمة الاسمية للسندات. وكضمان لعدم تعثرها في الاتفاق الجديد، تعهدت فنزويلا بتخصيص حصة معينة من عائداتها الجمركية. وبدأت المدفوعات في أغسطس/آب عام 1905، واستمرت حتى تاريخ استحقاق الديون في عام 1930.
- ما حدث لفنزويلا لم يكن حالة استثنائية. فالقوى الأوروبية لطالما تدخلت عسكريًا أو لوحت بهذا الخيار من أجل حث الدول المدينة على سداد ديونها. على سبيل المثال، بريطانيا وحدها تدخلت عسكريًا في الدول التالية من أجل تحصيل الديون: المكسيك (1861) التي سنتناول قصتها في تقرير قادم، ومصر (1882) واليونان (1887) وفنزويلا (1902) وسيبريا (1904) وجواتيمالا (1913).
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}