"كل عام وأنت بخير يا ماركس.. لقد كنت محقًا".. هذا ما عنونته صحيفة "نيويورك تايمز"، إحدى أكثر الصحف ليبرالية في بيت الرأسمالية العالمي منذ أشهر بمناسبة ذكرى ميلاد المفكر الراحل "كارل ماركس"، الذي يكفي ذكر اسمه فحسب لإثارة كم لا متناه من الجدل والخلاف، بين من يصورونه "عبقريًا" سبق عصره، وبين من يصفونه بالتطرف الفكري.
الطبقية
فلا شك أن "ماركس" قدم أطروحات مثل "ثورة البرولوتاريا" أو الطبقة العاملة، وضرورة "اتحاد عمال العالم" وغيرها من الأفكار التي تصفها "فوربس" –وغيرها- بـ"غير الواقعية" لكنه قدم الكثير من الأفكار التي تبدو منطبقة للغاية على واقعنا الاقتصادي الحالي.
من أهم التحذيرات التي أطلقها ماركس في عام 1875 هي سيطرة طبقة بعينها على الاقتصاد في مقابل معاناة من يصفها "بالقوى العاملة"، وهنا يكفي الإشارة إلى ما كشفته منظمة "أوكسفام" حول حصول الـ1% الأغنى في العالم على 82% من الثروة التي تم توليدها حسب بيانات عام 2017، في الوقت الذي حصل البقية على 18% فحسب.
بل ورأى "ماركس" في نظام التعليم القائم، سواء كان مجانيًا أو بمقابل، تدعيما للطبقية، حيث لا يستطيع الفقراء إلحاق أبنائهم بالجامعات حتى المجانية منها بسبب عجزهم عن الإنفاق عليهم فيها، وهو ما يجعل الدعم موجهًا للأغنياء، والبديل هنا هو التعليم المشمول بالراتب لمن يستحق الحصول عليه وليس فقط المجاني.
وتتفق رؤية "ماركس" هنا مع ما كشفته دراسة لمركز "راند" حول حصول هؤلاء القادمين من شريحة الـ1% الأغنى في المجتمع على 20% من فرص التعليم في الجامعات الأمريكية المرموقة، سواء كانت جامعات غالية أو مجانية، ففي الحالتين يهيمن الأغنياء.
استهلاك وهمي
كما "تنبأ" "ماركس" بتحول الناس مع الوقت إلى "الاستهلاك الوهمي" في ظل الرأسمالية، حيث رأى وسيلة النظام الرأسمالي الوحيدة للبقاء مرتكزة على التوسع في الاستهلاك بشكل مستمر وبدون توقف حتى إن كان ذلك لسلع لا يحتاجها المرء بشكل صحيح.
وتلفت دراسة لجامعة "ييل" إلى حقيقة اعتماد تسويق الأجهزة الإلكترونية الحديثة على نظرية الاستهلاك الوهمي، فكثيرون يقدمون على تغيير الجوال أو التلفاز أو غيره، فقط بسبب ظهور الأحدث منه في الأسواق، رغم قصر الاختلاف بينهما (الأحدث وما لدى هذا الشخص) على تغييرات بسيطة جدًا قد لا يحتاجها الشخص بأي حال.
وترى دراسة لكلية "هارفارد" لإدارة الأعمال أن "ماركس" كان محقًا في افتراضه حول استمرار الأعمال المختلفة في "استنزاف" العاملين، فعلى الرغم من تحسن ظروف عمل الموظفين والعاملين في الدول المتقدمة إلا أنها لا تزال سيئة في الكثير من دول العالم النامي بشكل يؤشر لعدم اهتمام المنتجين بهم كبشر بل كـ"أحد عوامل الإنتاج" كما أشار "ماركس".
وفي الدول المتقدمة، ارتفعت إنتاجية العاملين باستمرار وبشكل لافت خلال العقود الماضية، إلا أن الأجور لم ترتفع بشكل متناسب على الإطلاق، حيث غير منظرو الرأسمالية أسباب رفع الأجور من التناسب مع الإنتاجية، كما كانت في المرحلة اللاحقة على الحرب العالمية الثانية مباشرة، لتصبح استجابة لقانون العرض والطلب من العاملين مؤخرًا، لتبدو المعادلة باستمرار في مصلحة المنظمين وليس العاملين.
الكيانات الاحتكارية
وتحدث "ماركس" كذلك عن تراجع "القيمة الحقيقية" في الاقتصاد الرأسمالي، وترى دراسة "هارفارد" إنه على الرغم من تزايد أرباح الشركات بشكل لافت للغاية في الأعوام الأخيرة مع الوفورات التي حققتها الشركات التكنولوجية، تبدو الإضافة الكثير من الأرباح "رقمية" فحسب، فلا يوجد بناء جديد ولا منتج ملموس بل هو نمو "وهمي".
ولعل ما يدعم وجهة النظر هذه تحقيق شركات لمعدلات أرباح ونمو قياسية في الوقت الذي حتى كشفت فيه وكالة "ستاندرد آند بورز" المتخصصة في تصنيف الديون أن 37% من الشركات أنهت عام 2017 وهي تعاني ديونًا كبيرة تفوق كثيرًا "النسب المقبولة"، بما يؤشر لتراجع في الإيرادات مقابل النفقات لدى "الصناعات التقليدية، ويدعم إسهامات "ماركس" في هذا المجال.
وعارض "ماركس" أدبيات الرأسمالية التي تمسكت بآلية السوق بوصفها الضمان الأساسي لاستمرار "المنافسة الكاملة" التي تمنع ظهور الاحتكارات، وكانت فترة الثورة الصناعية التي شهدت صعودًا وهبوطًا لكيانات كثيرة خير مؤيد لها، ومع مرور الوقت بدأت الاحتكارات الكبيرة في الظهور، حتى أن شركات مثل "أبل" و"ألفابيت" و"فيسبوك" و"مايكروسوفت" وغيرها من الشركات العملاقة أصبحت بمثابة كيانات "لا يمكن تصور سقوطها وتتمتع بأوضاع احتكارية بامتياز.
فـ"جوجل" تحظى بقرابة 80% من السوق العالمي، و"أمازون" تهيمن بـ40%، و"مايكروسوفت" تستحوذ على أكثر من ثلثي سوق أنظمة تشغيل الأجهزة المنزلية، و"أبل" و"أندرويد" البديلان الرئيسيان المتاحان في مجال أنظمة تشغيل الجوالات، فضلا عن انتشار ظاهرة "الشركات العملاقة" التي تهيمن على الأسواق في مجالات منها النقل الجوي والبنوك والخدمات النفطية على سبيل المثال لا الحصر.
ويبدو مدهشًا لكثيرين أن يكون "ماركس" محقًا في الكثير من الأفكار الاقتصادية التي طرحها رغم فشل –أو بالأحرى غياب الواقعية- عن أطروحاته السياسية بما جعل ذلك الكثيرين لا يتوقفون بالدراسة والاهتمام المطلوب أمام الأفكار الاقتصادية التي عاد إليها كثيرون مؤخرًا في الكثير من كليات الاقتصاد المرموقة بعد ظهور علامات على صحتها- ولو جزئيًا وفي بعض القطاعات.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}