كثيرًا ما تطرح التساؤلات في الآونة الأخيرة حول مدى قدرة الغرب في الاستمرار في قيادة العالم اقتصاديًا في ظل صعود قوى جديدة، أبرزها الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا.
وأحدث الإسهامات في هذا الصدد ما قدمه الكاتب الاقتصادي الشهير ومندوب سنغافورة السابق في الأمم المتحدة "كيشور مهاهاباني"، الذي يرى "عالمًا اقتصاديًا مختلفًا" يتشكل في الآفاق، في كتابه "هل خسر الغرب؟".
أخطاء استراتيجية
يبدأ "مهاهاباني" كتابه بالتأكيد على أنه لا يكن "عداوة" للغرب، بل يقدر الإسهامات التي قدمها الأخير للحضارة الإنسانية، من خلال 200 عام أخيرة كان له اليد الطولى، وذلك من خلال الاختراعات والتطور التكنولوجي، فضلًا عن الإسهام الإنساني وأهمه خفض معدلات الفقر من 41% عام 1981 إلى 10% فحسب حاليا وهي نسبة يعتبرها الأقل في تاريخ البشرية.
ويرصد "مهاهاباني" 3 أخطاء استراتيجية وقع فيها الغرب خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة أدت لتراجعه نسبيًا حتى بات عرشه العالمي مهددًا، وأولها كان مع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1990، حيث صدق الغرب ادعاءات "فوكوياما" بـ"نهاية التاريخ" بانتصار الحضارة الغربية، بما أصاب الولايات المتحدة وأوروبا بما يصفه الكاتب بـ"ضرر بالغ في العقلية"، أدى لتراخيها.
ففي عام 1820 وقبل الصعود الغربي، كانت الصين والهند في صدارة الاقتصادات العالمية من حيث الحجم بسبب العدد الكبير للسكان وللاعتماد على الزراعة بشكل لافت في الاقتصاد، وبعد 180 عامًا من هذا التاريخ عادت الدولتان للصعود مجددًا بعد عقود من التراجع، بما لا يعكس جهودهما فحسب ولكن يعكس أيضًا تراجعًا غربيًا لافتًا في رأي "مهاهاباني".
لا سبل جديدة للنمو
وجاء الخطأ الثاني في أعقاب أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، حيث تورطت الولايات المتحدة في العديد من الصراعات في العالم الإسلامي، فقضت عقدا كاملا تقريبًا وهي تحارب وتبدد مواردها الاقتصادية، وفي العام نفسه (2001) التحقت الصين بمنظمة التجارة العالمية، واستفادت خلال هذا العقد من انضمام حوالي 800 مليون شخص لسوق العمل عالميًا، بما زاد من القدرة الشرائية، وكانت الصين في صدارة المستفيدين من هذا النمو العالمي.
وجاء الخطأ الثالث في عدم البحث عن سبل جديدة للنمو، ففي الوقت الذي كانت نسبة إسهام الولايات المتحدة في الناتج العالمي 25% عام 1980 كانت الصين 2.2% فحسب، وظلت الصين تنمو باستمرار حتى ضاقت الفجوة كثيرًا بين البلدين فيما تشير التوقعات إلى إغلاق الفجوة بشكل كامل خلال أعوام قليلة، بل وتشير تقديرات مستقلة بعيدًا عن الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي –وفقًا لـ"مهاهاباني"- إلى أن الصين أصبحت الاقتصاد الأكبر بالفعل منذ عام 2014.
ويرى "مهاهاباني" أن على الغرب اتخاذ 3 خطوات لتلافي أخطاء الماضي، وأولى الخطوات هي تقليص "التورط الغربي" في مختلف أنحاء العالم، حيث تسببت التدخلات الغربية في زيادة الأزمات في الشرق الأوسط على سبيل المثال، بينما أدى ترك الغرب لمنطقة "أسيان" إلى ازدهار المنطقة وتحقيقها لمعدلات النمو الأعلى عالميًا اقتصاديًا، كما لم تشهد المنطقة صراعات عسكرية أو سياسية خلال عقود.
العلاج
ويطالب "مهاهاباني" الغرب بالعودة إلى الاعتماد وتفعيل المؤسسات الاقتصادية العالمية، حيث تضاءل دور تلك المؤسسات تدريجيًا بفعل الرغبة الأمريكية في ذلك بالأساس، داعيًا الولايات المتحدة أن تدرك تغير العالم من حولها بحيث أصبحت قوى جديدة معها على القمة.
وسيكون الغرب مطالبًا بإدراك ذلك سريعًا، فوفقًا لـ"مهاهاباني" فإن أربعا من أكبر خمس قوى اقتصادية في العالم بحلول عام 2050 ستكون في آسيا، وهي الصين والهند واليابان وإندونيسيا، بما سيعني الانتقال الآلي لمركز الثقل الاقتصادي وربما العسكري والسياسي ناحية الشرق، ولذلك يجب التأقلم على ذلك وتدارك الأخطاء.
ويلفت "مهاهاباني" إلى تنوع الاقتصاد الآسيوي مقارنة بالاقتصاد الغربي، بما أدى لتوافر فرص أوسع للنمو للأول مقارنة بالثاني، معتبرًا "التطرف الاقتصادي" في الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة والخدمات بمثابة الخطأ الاستراتيجي الحالي الذي من شأنه الإطاحة بالغرب تمامًا من القمة الاقتصادية بدلًا من مشاركتها مع القوى الآسيوية الصاعدة.
وينهي "مهاهاباني" كتابه بالتأكيد على أهمية "الإرادة والتركيز" الذي تبديه الدول الآسيوية في المجال الاقتصادي، حيث تتجنب إنهاك نفسها في صراعات جانبية وتهتم بالأساس بتنمية الاقتصاد، ولذلك ينمو اقتصادها بينما تبقى معدلات النمو الغربية متدنية مقارنة بالآسيوية، ويرفض الادعاءات بتراجع النمو الغربي بسبب الوصول لـ"حالة التشبع"، مؤكدًا أن الاقتصاد يتضمن فرصًا مستمرة للنمو تحتاج فقط لمن يستغلها.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}