نبض أرقام
07:30
توقيت مكة المكرمة

2024/07/28
2024/07/27

بأيديهم العارية .. كيف استطاعت مجموعة من الفلاحين بناء قوة اقتصادية عالمية؟

2018/11/17 أرقام - خاص

عندما تولى الجنرال " بارك تشونج هي" رئاسة كوريا الجنوبية في عام 1963، أراد أن تدخل بلاده مجال تصنيع السيارات لتصبح قوة اقتصادية عالمية. لكن هذه الفكرة كانت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وهذا كان على الأقل بالنسبة للدبلوماسيين الأمريكيين في سيول وعدد من مستشاريه الاقتصاديين الذين زعموا أن كوريا الجنوبية لن تستطيع الابتعاد عن الاقتصاد الزراعي.

 

 

وحينها أشارت برقية دبلوماسية أرسلتها السفارة الأمريكية في "سول" إلى مقر وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن إلى أن الكوريين سيحتاجون دائماً لمساعدة الولايات المتحدة ليجدوا ما يسدوا به رمق الأفواه الجائعة من الشعب الذي يرغبون أن يظل بعيداً عن الشيوعية. هكذا كان تقدير الأمريكيين للموقف في الدولة الواقعة في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية.

 

فعلوها رغم التحديات

 

لكن لم يمر الكثير من الوقت قبل أن يكتشف العالم أن الأمريكيين استهانوا بقدرة وعزيمة وإصرار الكوريين. فتصريحات رئيس البلاد وقتها لم يكن غرضها أبداً تخدير العامة أو خداعهم لأطول فترة ممكنة. فقد وضع "بارك" خطة أكملتها من ورائه الإدارات اللاحقة لتحقق كوريا في النهاية حلم السيارة الوطنية.

 

رحلة كوريا الجنوبية لدخول عالم صناعة السيارات كانت أكثر اضطراباً مما توقعه "بارك". فالبنسبة له، كان الأمر بسيطا، حيث اعتقد أن كل ما يحتاجه بناء صناعة صلب تستطيع تزويد المنتجين بالمواد الخام، ثم بناء أنظمة للطرق وأخيراً إتمام صناعة السيارة.

 

ولكن بعد أن أنجزوا  كل ذلك، اكتشف الكوريون أن صناعة السيارات العالمية أكثر شراسة مما اعتقدوا، وأدركوا أن التحدي الأكبر يكمن في مدى قدرتهم على التسويق وإدارة علاماتهم التجارية. وتحت وطأة المفاجأة غير السارة لم تنج الكثير من الشركات الكورية ولم تستطع تثبيت أقدامها لفترة طويلة.

 

 

لكن من بين أبرز الناجين كانت شركة "هيونداي موتور كوربوريشن" التي استطاعت أن تصبح واحدة من أكبر مصنعي السيارات في العالم بفضل امتلاكها للمرونة الكافية التي مكنتها من تغيير ثقافتها وطريقتها في التعاطي مع المنافسين.

 

وفي هذا التقرير سنستعرض قصة الكوريين مع صناعة السيارات التي تحولت بفضلها بلادهم إلى قوة اقتصادية عالمية في غضون عدة عقود، وذلك استناداً إلى ما ذكره كل من "ميونج أوك كيم" و"سام جافي" في كتابهما الصادر في عام 2010 "كوريا الجديدة".

 

الصلب .. سنحصل عليه بدعمهم أو من دونه

 

على شاطئ وايكيكي في هونولولو جلس قطب الأعمال الكوري الجنوبي وضابط الجيش السابق " بارك تاي جون" يراقب السائحين الذين يتزلجون على الأمواج. ولكنه لم يكن في إجازة. فالرجل الذي ظل يعمل لأكثر من عام دون توقف ولو ليوم واحد كان يجلس مهموماً يشعر بثقل مستقبل بلاده على كتفيه.

 

كان حلمه المتمثل في بناء أكبر مشروع صناعي في كوريا الجنوبية – الذي كان عبارة عن مصنع صلب حديث متكامل – على وشك الضياع إلى الأبد. وكل ما سيطر على تفكيره أثناء جلوسه هناك هو أنه إما يجد حلاً أو يسير مباشرة إلى المحيط ويلقي بنفسه لأنه كان خجلاً جداً من العودة خالي الوفاض إلى مرشده ومعلمه الرئيس "بارك تشونج هي".

 

هذا المشهد كان في عام 1969، بعد أن أدارت مجموعة من الشركات الغربية التي تعهدت في السابق بتمويل بناء مصنع الصلب ظهورها للكوريين وتخلت عن المشروع. وفي الوقت نفسه سحبت المؤسسات الدولية بزعامة صندوق النقد دعمها للمشروع. وحاول "تاي جون" الذي لم يكن في الماضي سوى فلاح فقير إثناء رؤساء الشركات الغربية عن قرارهم ولكن دون جدوى.

 

أثناء استراحته التي استمرت لبضعة أيام، جلس "تاي جون" يسترجع ذكرياته بما في ذلك سنوات دراسته وعمله كدبوماسي في اليابان. وفي تلك اللحظة خطر على باله فكرة. وسرعان ما وضع ملابسه في حقيبته ليأخذ أول طائرة متجهة إلى طوكيو. وبعد اجتماعات استمرت لعدة أيام مع زملائه القدامى، عاد إلى سيول ليذهب مباشرة لرؤية رئيس البلاد ليخبره بأنه حصل على دعم اليابانيين.

 

 

بعد أربع سنوات، وبدعم مباشر من الرئيس نجح "تاي جون" وجيش من العمال المتفانين في تحويل بلدة بوهانج الواقعة على الساحل الشرقي لكوريا والمشهورة بصيد الأسماك وزراعة الأرز إلى منطقة صناعية ذات قدرات إنتاجية هائلة. وفي نفس العام أنتجت شركة "بوهانج آيرون آند ستيل" المعروفة باسم "بوسكو" أول لوح من الصلب. ومنذ ذلك الحين لم تنظر البلاد إلى الوراء أبداً.

 

في عام 1973 أنتج أول أقسام المصنع مليون طن من الصلب الخام، وبعد عقد من الزمان بلغ إنتاج "بوسكو" 9.1 مليون طن قبل أن يصل إلى 32 مليون طن في السنة بحلول عام 1992. وبعدها بعامين تم إدراج الشركة في بورصة نيويورك.

 

كان نجاح "بوسكو" وشركات الصلب الكورية الأخرى سبباً رئيسياً في نجاح البلاد في تحقيق قفزات هائلة في صناعة أخرى وهي صناعة السيارات.

 

ومن بين الحقائق المدهشة حول قصة الكوريين مع الصلب هي أن المؤسس والموظفين الأوائل بالشركة لم يكن لديهم أي معرفة أو خبرة في صناعة الصلب، ولكنهم نجحوا بإصرارهم في تعلم الخبرات اللازمة من الآخرين، حيث قاموا بزيارات كثيرة لمصانع الصلب في اليابان والتي كانت تعتبر في ذلك الوقت موطناً لإحدى أكثر صناعات الصلب تقدماً في العالم.

 

"تاي جون" الذي نجح في وضع بلاده على خريطة الصلب العالمية نشأ في قرية صغيرة بالقرب من الطرف الجنوبي لكوريا وكان الأكبر بين ستة أطفال لعائلة من الفلاحين. درس الهندسة والعلوم في إحدى الجامعات اليابانية قبل أن يلتحق بالجيش.

 

الطرق .. "هل تعرف شيئاً عن صناعة السيارات؟".

 

لفهم رحلة كوريا الجنوبية مع أنظمة وشبكات الطرق، يجب أن نتعرف على فلاح كوري آخر يدعى "تشونج جو يونج". فباعتباره الابن البكر لعائلته كان من المفترض أن يعيش مع والده المزارع ليساعده في نشاطه الزراعي، ولكنه لم يكن يحب الزراعة وكان يفضل التجارة، ولذلك اعتاد الهروب من والده للعمل في القرى المجاورة.

 

ولكن قبل أن نكمل قصة "يونج" من المهم أن نلقي نظرة على الحالة التي كانت عليها شبكات الطرق في كوريا الجنوبية.

 

عندما عبر الجيش الكوري الشمالي في عام 1950 الحدود الفاصلة بين الكوريتين لم يواجه سوى مقاومة بسيطة، حيث ذاب الجيش الكوري الجنوبي وسط المدنيين، ولكن الدبابات الكورية الشمالية احتاجت نحو 10 أيام لكي تصل إلى بوسان وهي المدينة الواقعة أقصى جنوب شبه الجزيرة الكورية، وقبل أن تدخلها أوقفتها قوات المارينز الأمريكية.

 

حقيقة أن جنود المارينز الأمريكيين الذين جاءوا على متن مجموعة من السفن استطاعوا الوصول إلى بوسان بشكل أسرع من الكوريين الشماليين الذين يمكنهم الوصول إلى هناك عن طريق البر – المسافة لا تستغرق حالياً أكثر من 5 ساعات – توضح إلى حد كبير الحالة المزرية لشبكات الطرق في كوريا في ذلك الوقت.

 

باستثناء بعض الطرق الترابية وخطوط السكك الحديدية لم يكن لدى كوريا أي طرق معبدة. ووفقاً للمختصين في اقتصادات التنمية، فإن أسرع طريقة لسحب المجتمع الريفي غير المتطور من الفقر هو بناء الطرق. وكان هذا هو أكبر هدف للرئيس "باراك" في أوائل السبعينيات.

 

وضعت الحكومة الكورية خطة طموحة لنظام الطرق كان درة تاجها هو مشروع الطريق السريع "بوسان سول"، وهو طريق سريع مكون من 8 حارات بطول 266 ميلاً، كان من المفترض أن يصبح بمثابة العمود الفقري لمجموعة مختلفة من شبكات الطرق التي ستبنى لاحقاً.

 

لكن ظهرت هناك مشكلة، وهي وقوف اثنتين من سلاسل الجبال في مسار الطريق، وهو ما مثل تحديا هندسيا صعبا أمام المقاولين المحتملين. لكن هذا لم يمنع الشركات الكورية واليابانية من التقدم بعروض لتنفيذ المشروع وصلت قيمتها إلى ما يقرب من 1.4 مليار دولار – وفقاً لحسابات عام 2010 – بعد أن اقترحوا تفجير الحواجز الجبلية بالديناميت.

 

 

في تلك اللحظة ظهر "جو يونج" الذي تغيرت حياته بعد أن غادر القرية وعمل في التجارة بالمدينة وامتلك شركة مقاولات كبيرة تسمى "هيونداي" تقدمت بعرض لتنفيذ المشروع مقابل 649 مليون دولار فقط، ولكن بشرط أن يتم تغيير مسار الطريق. وحصلت شركته بالفعل على المشروع وبدأت العمل في فبراير/شباط 1968.

 

أصبح هذا المشروع بمثابة جزء من بناء كوريا الجنوبية. فقد عمل المهندسون ثلاث ورديات، وزاد عدد معدات البناء في كوريا الجنوبية بأكثر من الضعف، وكان الشعب بأكمله في انتظار اكتمال المشروع، ويتابع بشكل يومي تطوراته على صفحات الجرائد.

 

لم يكن الأمر سلساً بالنسبة لهيونداي. فقد واجه المشروع مشاكل هندسية تسببت في تأخر التقدم وإصابة ووفاة بعض العمال. ولكن "تشونج" لم ييأس ودعم المشروع بالمزيد من المعدات والآلات وضاعف أجور العمال والمهندسين، وفي يونيو/حزيران من عام 1970 اكتمل الطريق السريع والنفق.

 

في بلدان أخرى، ربما يستغرق مشروع بنفس المواصفات من ثلاث إلى خمس سنوات، ولكن هيونداي لم تكن في حاجة سوى لعامين وشهرين اثنين فقط لإنجاز المشروع.

 

في حفل الافتتاح وقف "تشونج" إلى جانب الرئيس "باراك" وزوجته أثناء قص الشريط وحدق الرئيس في الطريق الذي كان فارغاً من السيارات قبل أن يهمس في أذن "تشونج" قائلاً له "هل تعرف شيئاً عن صناعة السيارات؟". "نعم أعرف" هكذا رد "توشنج". كان الرجلان يدركان أن كل السيارات الموجودة في كوريا الجنوبية لا يمكنها أن تشغل عدة كيلومترات من هذا الطريق.

 

"بوني" .. اكتمال الخطة

 

كان رد "توشنج" على الرئيس أكثر من مجرد ثقة بالنفس. فقد كان يعرف بالفعل الكثير عن صناعة السيارات لأن شركته كانت تبنيها منذ عامين. ولكن في صناعة السيارات مصطلح "البناء" يعتبر نسبياً إلى حد كبير.

 

ما كانت تقوم به هيونداي بالفعل في ذلك الوقت هو تجميع الأجزاء التي تم تصنيعها في الولايات المتحدة من قبل شركة "فورد". كل ما كان يقوم به العمال الكوريون هو تجميع أجزاء نوع من سيارات فورد يطلق عليه اسم "كورتينا" وكان يتم بيعه في كوريا الجنوبية.

 

لكن الرئيس "باراك" و"تشونج" أرادا ما هو أكثر من ذلك. فلم يرغبا في أن يكونا مجرد مقاولين من الباطن لـ"فورد" بل  أن يتنافسا معها. لذلك في عام 1970 انسحبت هيونداي من شراكتها مع فورد وبدأت في البحث عن شريك يساعدها في بناء سيارة كورية.

 

لم يكن الأمر سهلاً. فقد تمت مناقشات مع تويوتا وجنرال موتورز وفولكس فاجن ولكن لم توافق أي من هذه الشركات على منح هيونداي ترخيصا لاستخدام تكنولوجياتهم. كل ما عرضوه كان عبارة عن شراكات شبيهة لتلك التي كانت تبرمها هيونداي مع فورد.

 

لكن استطاع "تشونج" في النهاية إقناع شركة "ميتشوبيشي" اليابانية بما يريد. ففي ذلك الوقت كان عملاق السيارات الياباني لا يزال لاعباً ناشئاً في سوق السيارات يحاول مزاحمة تويوتا ونيسان. ووافقت "ميتشوبيشي" على توفير المساعدة التقنية لهيونداي ومنحها التراخيص التكنولوجية اللازمة.

 

بمساعدة ميتسوبيشي بدأت هيونداي تشق طريقها نحو حلم السيارة الكورية الوطنية. وفي هذه الأثناء قام "تشونج" بتعيين أحد المديرين أصحاب الخبرة بقطاع السيارات البريطاني يدعى "جورج تيرنبول" للإشراف على بناء المصنع الجديد في أولسان. وطلب "تيرنبول" أربع سنوات لبناء المصنع، ولكن "تشونج" لم يعطيه سوى عامين.

 

في عام 1976 خرجت أول سيارة هيونداي من خط إنتاج المصنع الذي أقيم في أولسان، وأطلق عليها اسم "بوني" والتي سرعان ما انتشرت على الطرق السريعة في كوريا الجنوبية.

 

مع نجاح "بوني" في كوريا، بدأت هيونداي تفكر في فتح أسواق تصديرية لها. وفي الوقت الذي أوصى فيه مستشارو "توشنج" بالبدء في تنفيذ خطة مدتها 5 سنوات يتم خلالها بحث ظروف الأسواق الدولية وتعديل تصاميم السيارة وفق ظروف كل بلد، لم يوافق "توشنج" على الانتظار وأمر أن تبدأ الصادرات فوراً إلى ثلاثين دولة في وقت واحد.

 

 

شكلت هذه الخطوة نجاحاً باهراً بالنسبة للشركة. فعلى الرغم من أن عدد السيارات التي تم تصديرها كان ضئيلاً إلا أنه تم اقتناصها عند وصولها إلى موانئ إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية. ورغم أن جودة السيارة كانت سيئة إلا أن الطلب عليها كان في ازدياد لأنه لم يكن هناك من يقدم سيارة بنفس السعر.

 

لاحقاً أمر "تشونج" كبار المديرين بالشركة بالسفر إلى الأسواق التصديرية والوقوف عن قرب على المشاكل التي تواجه المستهلكين هناك. على سبيل المثال، في السعودية، فقدت السيارة طبقة الطلاء في غضون أيام قليلة بسبب حرارة الشمس. وعلى هذا الأساس قامت الشركة لاحقاً بدهان السيارات المتوجهة إلى السوق السعودي بنوع خاص من الطلاء.

 

لكن رويداً رويداً تحولت خطة هيونداي من التركيز على الانتشار بأي ثمن إلى التركيز على الجودة وبناء نوع من الولاء لعلامتها التجارية، وهو ما نجحت فيه على مدار العقود التالية.

 

اليوم تحتل "هيونداي" – فخر كوريا الجنوبية – المرتبة الثالثة في ترتيب أكبر مصنعي السيارات في العالم، ليأتي وراءها كل شركات صناعة السيارات الأمريكية ومعظم صانعي السيارات الأوروبيين.

 

قطاع السيارات الذي أسسه مجموعة من الفلاحين قبل عدة عقود يساهم اليوم بما يزيد على 10% من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية، ليخبرنا أن الطموح المقرون بالتخطيط والمثابرة مع الانتماء يصنع المعجزات.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة