منذ عهد التلغراف والبدء في مد السكك الحديدية، وانتشار الأسلحة الحديثة والطيران ثم الراديو إلى عصر أصبح فيه الإنترنت والخدمات المرتبطة به على قمة الهرم الاقتصادي في الولايات المتحدة، كان هناك مفهوم مركزي في القلب من كل ذلك في واشنطن: الرأسمالية.
هذا ما يكشفه كتاب "أمريكانا: 400 عام من التاريخ الرأسمالي الأمريكي" للكاتب "بو سريفاناس"، الذي يتناول تاريخ الرأسمالية الأمريكية منذ نشأتها (قبل توحد الشمال والجنوب حتى) مع ظهور شركة "فيرجينيا" و"ماي فلور" حتى عصر الشركات العملاقة.
ليست آيديولوجية
وفي رأي "سريفاناس" فإن كثيرين أخطأوا في فهم الرأسمالية الأمريكية، بوصفها "عقيدة" أو "آيديولوجية" بينما هي في الواقع "أسلوب حياة اقتصادي" فرضته الشركات الأمريكية، ليتلاءم مع الضلع الثاني المهم في حياة الولايات المتحدة (سياسيًا) وهو الديمقراطية.
وبناء على ذلك كان للولايات المتحدة على مدى العصور "عامل دفع" للاقتصاد في مختلف عصور الرأسمالية الأمريكية وشملت تلك العوامل: التبغ، والقطن، والبخار، والزيت، وبيع الخمور، والهواتف الجوالة، بحيث قادت كل سلعة النمو في زمن معين.
وعلى ذلك فإن الولايات المتحدة تختلف عن كافة الإمبراطوريات السابقة في أمر جوهري، فمنذ عهد الرومان حتى نهاية زمن الإنجليز كانت الحكومة تذهب وتلحقها الشركات، إلا أنه في الحالة الأمريكية كانت الشركات تسبق الحكومات وتلحقها الأخيرة، تحقيقًا لمصالح الشركات أولًا، وثانيًا لتعهدات انتخابية ولخدمة علاقات المال بالسلطة.
وما يؤكد أن الرأسمالية الأمريكية لم تكن بحال "آيديولوجية" قدر كونها "وسيلة" أن السلطات الأمريكية كان لها تدخلات قوية للغاية وأبرزها التعريفات الجمركية التي حمت الصناعات الأمريكية في القرن التاسع عشر ضد "أوروبا المتطورة حينها".
لا التزام بقواعد الرأسمالية
كما أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر تقديمًا للدعم للمزارعين خلال القرن الأخير بأكمله، والبنك المركزي الأمريكي (الفيدرالي) هو الأكثر تدخلًا (مقارنة بنظرائه) في مجال توفير الضمانات لبنوك القطاع الخاص، بل وللنظام المصرفي بأكمله.
بل وجاء الإنفاق العسكري الأمريكي ليقدم مساعدات غير مباشرة للقطاع الخاص، حتى أن اختراعات مثل الراديو والأقمار الصناعية والإنترنت جاءت إما اكتشافًا عسكريًا أول الأمر أو أن الجيش الأمريكي قام بجعلها "اختراعًا عمليًا" وليست مجرد حبر على ورق.
بل أقرت الحكومة الأمريكية منذ عهد الرئيسين "روزفلت" ("ثيودور" ثم "فرانكلين") سياسات تدخلية في الاقتصاد تتناقض مع مفاهيم الحرية الاقتصادية الرأسمالية، ولا يشمل الأمر مجرد وضع معايير للإنتاج فحسب، بل يمتد كذلك لتشجيع بعض الصناعات ودعم أخرى مباشرة.
وفي كل تلك الأحوال تبنت الولايات المتحدة ما يلائم شركاتها من قواعد الرأسمالية، ولم تلتزم لقواعد الرأسمالية بما فيها من حرية التجارة وتحرك رؤوس الأموال، لتأتي مصلحة الشركات، والتي عملت على تنظيم صفوفها في جماعات مصلحة وضغط منذ وقت مبكر للغاية من تاريخ البلاد، قبل أي آيديولوجية.
قبل إنشاء الدولة
ويبدأ تناول تاريخ الرأسمالية الأمريكية-زمنيًا- بالتوطين الأوروبى في "القارة الجديدة"، وقبل نشأة "الدولة" الأمريكية رسميًا، حيث كانت نشأة البلد الأغنى في العالم في الأصل مدفوعة بـ"الحتمية التجارية"، أي ضرورة البحث عن أفق جدديد للنمو للشركات، فعلى سبيل المثال استأجر البريطانيون شركة "فرجينيا" في الولايات المتحدة في إطار "مغامرة" لرأس المال عله يستطيع تحقيق وفورات جديدة، عن النسب في أوروبا.
بل ولعبت التجارة والرأسمالية دورًا حاسمًا في تحديد مسار التاريخ الأمريكي، فصحيح أن المستوطنين الأوائل للولايات المتحدة (ويقصد بهم هنا سكان الولايات الشمالية قبل وأثناء الحرب الأهلية الأمريكية) بذلوا جهودًا كبيرة في تأسيس الدولة، ولكنهم أيضًا اهتموا بتأسيس تجارة مربحة فى مجالات الزراعة وتصدير التبغ في الولايات الجنوبية فور سيطرتهم عليها بما أعطى حرب الاستقلال نفسها بعدًا اقتصاديًا.
ثم جاءت هيمنة "اقتصاد المزارع" في الولايات الجنوبية، وأدت الهيمنة السياسية لولاية "فيرجينيا" (التي قدمت أربعة من الرؤساء الخمسة الأوائل في أمريكا) إلى استمرار العبودية في البلد المستقل حديثًا، وذلك لاعتماد المزارع على العبيد كقوة عاملة فيها.
بل وتشير تقديرات إلى أنه في عام 1860 بلغت القيمة الإجمالية للعبيد الأمريكيين 4 مليارات دولار في الوقت الذى كانت الميزانية السنوية للحكومة الفيدرالية تقدر بحوالي 69 مليون دولار، ولهذا كان من المستحيل على الحكومة حل مشكلة العبيد باستخدام الأداة المالية (بمعنى إنهاء العبودية مقابل تعويض الملاك).
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}