هل تحركت أفكاره من بين السطور وانتقلت إلى الشارع لتدب الحياة في أوصالها مرتدية "سترة صفراء"في قلب العاصمة الفرنسية التي شهدت أيامًا عصيبة غير عادية أوائل شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، معلنة احتجاجها على الفجوة التي تزداد اتساعا بين من يملك ومن لا يملك؟ بين من يزداد غنى ومن يزداد فقرا؟
ورغم أنه لم يدع لعنف، لكن الاحتجاجات تخللتها أعمال شغب وصدام مع قوات الأمن سقط خلالها قتلى وجرحى، علاوة على سلب ونهب وتخريب العديد من الممتلكات العامة والخاصة، فهل باتت هذه دلالة على أن تأخر صدور "كلمة الفصل" فيما يخص "الظلم الاجتماعي" غير المعلن و"الانحياز الغربي" نحو الأغنياء ستكون هذه عاقبته.
واعتبرت الاضطرابات الأمنية التي شهدتها باريس هي الأسوأ منذ عام 1968، ومع استمرار وتصاعد وتيرة الاحتجاج والشغب كان موقف الحكومة الفرنسية متباينًا، فتارة يكتفي الرئيس "إيمانويل ماكرون" بتوجيه قوات الأمن بتشديد قبضتها، وتارة أخرى يحاول امتصاص غضب المتظاهرين عبر تصريحات لرئيس الوزراء، قبل أن يرضخ ويظهر في خطاب يعلن فيه حزمة تعهدات لتهدئة الشارع الفرنسي.
قوة الحركة الاحتجاجية الأخيرة اضطرت "ماكرون" لتعطيل خططه الضريبية، ودفعته للتفاوض مع ممثلي النقابات العمالية ومنظمات أصحاب العمل، وفي النهاية اعترف الرئيس الفرنسي بمسؤوليته -جزئيًا- عن الغضب الذي يعتري المواطنين، بعدما بدا غير مهتم بمطالبهم، وأخيرًا تعهد بالإسراع في تخفيف أثر الضرائب التي تُثقل كاهل بني وطنه.
وكانت الحُجة الرئيسية -أو ما يمكن وصفه بالشرارة التي أشعلت فتيل الغضب- وراء اندلاع هذه الاحتجاجات هو زيادة الضرائب على البنزين بواقع 8% في 2018 مع زيادة أخرى مقررة في 2019 بنسبة 6.5%، لكن الاحتجاجات الأخيرة بدت أقوى من مجرد حركة اعتراضية على هذا الإجراء، فحتى مع إعلان الحكومة تأجيل الزيادة المقررة في أسعار الوقود لم يهدأ بال المتظاهرين.
ولعل ما يظهر عمق الأزمة الفرنسية؛ التقارير التي أشارت إلى وجود تحركات من قبل مشرعين في البرلمان لبحث سحب الثقة من الحكومة الفرنسية، والأكثر من ذلك، عدم اقتناع أصحاب السترات الصفراء بوعود "ماكرون" للإصلاح الاقتصادي، وتعهدهم بمواصلة الاحتجاجات (التي شبه البعض فيها رئيس البلاد بـ"لويس السادس عشر" آخر ملوك فرنسا قبل اندلاع الثورة في القرن الثامن عشر الميلادي).
من خلال نظرة عابرة على هذه الأحداث، يبدو للوهلة الأولى أن غضب الفرنسيين يتجاوز مجرد زيادة محدودة في أسعار الوقود، خاصة مع إعلان "السترات الصفراء" قائمة من 40 مطلبًا على الحكومة تنفيذها لاحتواء الشارع المنفجر غضبًا، وبدا أن كلمات الرجل الذي نقصده في المقدمة وضح تأثيرها.
وفي الحقيقة فإن الأزمة الفرنسية أكثر تعقيدًا بالفعل إذا ما نُظر إليها من خلال أفكار "توماس بيكيتي" حول تراكم الثروة لدى قلة قليلة من الناس على حساب الأكثرية، لكن هذا التعقيد ليس مقصورًا على الاقتصاد الفرنسي، وإنما يشمل الاقتصادات الغربية على وجه العموم.
الحالة الفرنسية
- في فرنسا يبلغ متوسط الدخل الشهري 1700 يورو (1934 دولارًا)، لكن كغيرها من البلدان الغربية، تعاني البلاد من فجوة عميقة بين الطبقتين الأغنى والأفقر من المواطنين، حيث تجني فئة العشرين في المائة الأعلى دخلًا 5 أضعاف ما تجنيه فئة العشرين الأقل دخلًا، بحسب "نيويورك تايمز".
- الأكثر من ذلك، أن فئة الواحد في المائة الأغنى في البلاد تمتلك 20% من ثروة البلاد، فيما يحصل نصف العمال الفرنسيين على أقل من المستوى المتوسط للدخل الشهري في البلاد، ويضاف إلى ذلك تأرجح معدل البطالة بين 9% و11% منذ 9 سنوات.
- في إطار سعيه الحثيث لتحفيز الاقتصاد، خفض "ماكرون" الضرائب على أثرياء البلاد خلال عامه الأول، وهو ما حد من الإيرادات الضريبية للحكومة الفرنسية بمقدار 3.6 مليار دولار، وبقول آخر فقد قدم الرئيس دعمًا قدره هذا المبلغ للطبقة الأكثر تحكمًا في الثروة.
- تحظى فرنسا بواحد من أعلى معدلات الضريبة على الدخل في أوروبا والعالم، وفيما استفاد أصحاب المداخيل المرتفعة من الإعفاءات الضريبية، انخفضت القوة الشرائية للأسر بنسبة 5% العام الماضي.
- مع ذلك، فإن الحالة الفرنسية لا تبدو شديدة الخصوصية، ويرى البعض أن قرار إسبانيا قبل أيام بزيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 22% إلى 1050 يورو (أكبر زيادة منذ عام 1977) يأتي خوفًا من انتقال عدوى السترات الصفراء إلى مدريد.
- بالنظر إلى التجربة الفرنسية القائمة، والمخاوف الإسبانية، والتحذيرات في الولايات المتحدة من الهيمنة المطلقة لفاحشي الثراء على مقاليد السلطة والمال، يبدو أن البراهين تجتمع لتؤكد صحة اعتقاد "توماس بيكيتي" بشأن اتجاه الغرب نحو رأسمالية توارثية ومزيد من الاتساع في فجوة الثروة.
قناعات "بيكيتي"
- في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" الصادر عام 2013 والذي سرعان ما أصبح واحدا من الكتب الأفضل مبيعًا، يحاول الأستاذ بكلية باريس للاقتصاد حث العالم على إعادة النظر في عدم المساواة، عبر استعراض تاريخي للتغيرات التي طرأت على الدخل وتركز الثروة في أيدي الناس.
- خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اتسم المجتمع الغربي بعدم التكافؤ إلى حد كبير، ونما حجم الثروة الخاصة بشكل يفوق الدخل القومي للبلدان، وتركزت هذه الثروة في أيدي العائلات الغنية، ثم أسهمت أعمال التصنيع في رفع أجور العمال لكن ببطء، إلى أن جاءت الحربين العالميتين بجانب الكساد ليعطلوا هذا النمط.
- في هذه الأثناء، مع ارتفاع التضخم والضرائب وزيادة حالات الإفلاس، تقلصت الثروات بشكل حاد، وعاشت البلدان الغربية فترة من التكافؤ النسبي في توزيع الثروة والدخل، لكن "بيكيتي" يرى أن كل ذلك قد تلاشى في الاقتصادات الحديثة.
- ازدادت فجوة الثروات وعدم المساواة بشكل حاد منذ أواخر السبعينيات، وعلى سبيل المثال فإن 60% من الزيادة في الدخل القومي للولايات المتحدة خلال الثلاثين عامًا التي تلت عام 1977، كانت من نصيب فئة الواحد في المائة الأعلى دخلًا في البلاد.
- بعد أبحاث دامت لأعوام، خلص "بيكيتي" إلى نظرية تدعي بأن تجاوز معدل العائد على رأس المال لمعدل النمو في اقتصاد ما، يعزز من مكاسب الطبقة الثرية (صاحبة الثروة المتوارثة) بسرعة كبيرة مقارنة بالعاملين (أصحاب الثروة المكتسبة) ويزيد الفجوة بين الفئتين.
- نتيجة ذلك، سوف تبلغ مستويات تركز الثروة في أيدي القلة، مستويات لا تتوافق مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفقًا لـ"بيكيتي" وباختصار يمكن القول إن الرأسمالية تخلق تلقائيًا مستويات لا يمكن تحملها من عدم المساواة.
- يقول "بيكيتي" إن التصدي لتركز الثروة يحتاج إلى معدلات نمو أسرع (من خلال التطور التكنولوجي أو تزايد عدد السكان) أو عبر تدخل الحكومات لمنع الاقتصادات من الانزلاق مجددًا إلى الرأسمالية التوارثية، وينصح الحكومات بتبني ضريبة عالمية صارمة على الثروة لمنع اتساع فجوة عدم المساواة التي تهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
- طرح "بيكيتي" بعض الحلول لمعالجة المشهد المتأزم في المجتمعات الغربية، عبر فرض ضريبة نسبتها 15% على رأس المال، و80% على الدخل المرتفع (حدده بما يزيد على 500 ألف دولار في أمريكا) إضافة إلى اعتماد الشفافية في إجراء جميع المعاملات المصرفية.
- مع الأخذ بعين الاعتبار هيكل الثروة في فرنسا، قد يكون من المفهوم أسباب غضب المتظاهرين، لكن بالنظر عبر منظور "بيكيتي" فلن تبدو التحركات الرسمية كافية سواء في فرنسا أو غيرها من البلدان الغربية التي تعاني فجوة حادة من عدم المساواة.
- تحليل "بيكيتي" يمنحنا نافذة للاطلاع على حقيقة العدالة المدعاة في الاقتصادات الديمقراطية الغربية، ويبرر الإجراءات الإسبانية الأخيرة التي تعكس قلقها من عدوى الغضب، لكنه يؤكد أيضًا أن على الكثيرين غير باريس ومدريد القلق بشأن المستقبل.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}