قبل إصداره البيان الشيوعي في منتصف القرن التاسع عشر، كان يشعر الفيلسوف والاقتصادي الألماني "كارل ماركس" بالغضب الشديد إزاء تنامي فجوة الثروة بين الأغنياء والفقراء، واعتقد أن النظام الاقتصادي الرأسمالي عفا عليه الزمن وحان أوان استبداله بآخر أكثر عدالة.
رأى "ماركس" أن الرأسمالية تستغل العمال لدرجة ستدفع الفقراء الذين عوملوا بشكل غير عادل إلى الثورة ضد الأثرياء، وتوقع أن النظام الاقتصادي الشيوعي -الذي يعد هو الأب الروحي له- سيحل محل نظيره الرأسمالي.
ربما كان "ماركس" محقًا، فالعديد من الاقتصاديين وأصحاب الرأي الغربيين -حتى أولئك الذين يعيشون في اقتصادات رأسمالية متقدمة- لا زالوا يحذرون من تسبب الأنظمة الرأسمالية في اتساع فجوة الثروة وغياب العدالة بين الطبقات.
ولعل أبرز هؤلاء المنظرين، أستاذ الاقتصاد بكلية باريس للاقتصاد "توماس بيكيتي" والذي يقول في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" إن مكاسب الأثرياء تتزايد بوتيرة أسرع من الطبقة العاملة، وهو ما يقود العالم نحو مستويات لا يمكن تحملها من عدم المساواة.
وأشار "بيكيتي" بعد سنوات من الأبحاث، إلى أن 60% من الزيادة في الدخل القومي الأمريكي خلال الفترة بين عام 1977 و2007، كانت من نصيب فئة الواحد في المائة الأعلى دخلًا في البلاد، محذرًا من انزلاق الاقتصادات الرأسمالية الكبرى إلى أنظمة توارثية.
لم يكن "بيكتي" أول أو آخر المحذرين من حيود الرأسمالية عن طريق العدالة الاقتصادية، وسبق أن تناولنا تقريرًا لصحيفة "التلغراف" استعرض المخاوف بشأن الفقر في العالم وعدم الثقة بقدرة الأنظمة الرأسمالية على معالجته بدلًا من منح المزيد من الفرص للأثرياء.
أحد أبرز الأمثلة على هذه المخاوف، هو امتلاك الثلاثة الأكثر ثراءً في الولايات المتحدة ثروة تعادل ما يمكله نصف السكان الأقل دخلًا في البلاد، علمًا بأن خُمس الأمريكيين لا يمتلكون أي ثروة، في حين يمتلك خُمس آخر قدرا متواضع للغاية.
إلام دعا "ماركس"؟
- لا شك أن هذه الإشارات تدلل ولو جزئيًا على صحة معتقد "ماركس" الذي أرجع الفقر وغياب العدالة الاقتصادية إلى النظام الرأسمالي الذي يُثقل العمال والفقراء بالأعباء ويمنح الأفضلية للأثرياء الذين يتحكمون في أدوات الإنتاج، لكن هل كان البديل الذي قدمه صائبًا؟
- تقوم الشيوعية على مجموعة من المبادئ تهدف إلى تصحيح المشكلات التي تسببت فيها الرأسمالية (لذا كثيرًا ما ينظر لها باعتبارها النظام المقابل للرأسمالية)، وأهم مبدأ لها هو عدم السماح بالملكيات الخاصة، التي يعتقد "ماركس" أنها تشجع الجشع وتقتل المنافسة.
- يؤمن الشيوعيون بالملكية المشتركة وسيطرة العامة على الاقتصاد، وضرورة إحكام الحكومة لقبضتها على أدوات الثروة باسم الشعب، والهدف السامي لها هو القضاء على الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتحقيق العدالة الاقتصادية، بحسب موقع التاريخ الأمريكي "يو إس هيستوري".
- على النقيض، تعتمد الرأسمالية على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والحرية الاقتصادية الفردية، حيث تكون معظم وسائل الإنتاج مثل المصانع والشركات مملوكة لأفراد وليس للحكومات، ويتخذ أصحاب هذه الأدوات القرارات بشأن ما ومتي يجب إنتاجه وتكلفة السلع.
- يقول "ماركس" ورفيقه "فريدرك أنجلز" في البيان الشيوعي، إن الثورة الصناعية وظفت العمال في المصانع كالجنود، ووضعتهم تحت إمرة تسلسل هرمي من الرقباء، وبدلًا من أن ينهض التقدم الصناعي بالعامل أصبح يدفعه إلى ظروف معيشية أسوأ.
المثال الشيوعي الأنجح: الصين
- رغم اعتبار الشيوعية أحد أشكال الاشتراكية (أو على الأقل كلاهما في نفس الخندق الفكري من الناحية الاقتصادية)، فالأولى أكثر تشددًا وتقدم تنازلات أقل لرأسمالية الأسواق والديمقراطية الانتخابية مقارنة بباقي أشكال الأنظمة الاشتراكية الأخرى، وعلى الجانب السياسي تميل إلى احتكار الحكم وحظر المعارضة.
- أحد أبرز الأمثلة لتبنّى الفكر الشيوعي في إدارة الدولة هي الصين، والتي لا يخفى على أحد النهضة الاقتصادية التي حققتها خلال العقود القليلة الماضية وانتشالها لمئات الملايين من براثن الفقر.
- نعم الصين أحد أشهر وأنجح الأنظمة الشيوعية في العالم، لكن تبنّي الحزب الحاكم لهذه الأيدولوجية في الجانب السياسي، لا يعني أنها كانت سببًا في النهضة الاقتصادية، حيث تبنت البلاد طويلًا توجهات رأسمالية داعمة للأسواق بشكل واضح.
- يقول البنك الدولي: منذ بدأت الصين إصلاحات السوق عام 1978، تحولت البلاد من الاقتصاد المخطط مركزيًا إلى اقتصاد السوق وشهدت تنمية سريعة، وبلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي 10% سنويًا (أسرع وتيرة لاقتصاد رئيسي في التاريخ) وأخرجت 850 مليون شخص من الفقر.
- حققت الصين جميع الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة بحلول عام 2015، وساهمت بذلك في تحقيق الأهداف الإنمائية للعالم بأثره، ويقول البنك إنها على الطريق الصحيح للقضاء على الفقر المدقع تمامًا بحلول عام 2020
- رغم أن الصين حققت مكاسب اقتصادية واجتماعية كبيرة، إلا أن إصلاحتها في السوق غير مكتملة، ويظل دخل الفرد فيها كأنه دخل شخص في بلد نامٍ، وأقل من ربع المستوى المتوسط في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
الشيوعية لم تمنع عدم المساواة
- إلى جانب الصين، ما زالت بلدان كوبا ولاوس وكوريا الشمالية وفيتنام تتبنى الفكر الشيوعي، لكن لا يمكن وصف أيٍٍّ منها بالبلد الشيوعي الخالص وإنما اقتصادات مختلطة، والحقيقة أنه لا وجود الآن للنماذج التي تطلع إليها "ماركس" والتي تمتلك فيها الدولة أدوات الإنتاج كاملة.
- في كوبا مثلًا، عانت البلاد كثيرًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي عام 2011 أقرت إصلاحات اقتصادية موسعة، سمحت للمواطنين بشراء الأجهزة والعقارات والسيارات ومكنت المزارعين من بيع محصولهم لجهات خاصة، وأنشأ أكثر من 400 ألف كوبي شركاتهم الخاصة، بحسب موقع "ذا بالانس".
- بالنسبة إلى فيتنام التي شهدت معجزة اقتصادية منذ الثمانينيات، حولتها من أحد أفقر بلدان العالم إلى دولة متوسطة الدخل، فإن ذلك يرجع بشكل أساسي إلى تبني نموذج مشابه للصين، حيث أقرت البلاد حزمة من الإصلاحات التي قادتها نحو الاقتصاد المفتوح.
- رغم الطفرة الاقتصادية، لم تستطع فيتنام إنهاء عدم المساواة، وأشار تقرير للبنك الدولي عام 2012، إلى أن دخل فئة العشرة في المائة الأكثر فقرًا انخفض بنسبة 5% بين عامي 2004 و2010، وهيمن خمسة في المائة من السكان على ربع الثروة.
- في عام 2016 أشار تقرير لجامعة بكين إلى أن الصين لديها أحد أكبر مستويات عدم المساواة في الدخل على مستوى العالم، حيث يمتلك 1% من سكانها ثلث ثروة البلد الشيوعي، فيما يمتلك ربع السكان ما يعادل 1% من الثروة.
- الخلاصة أنه رغم إخفاقات الرأسمالية التي لا يجب غض الطرف عنها، لم تقدم الشيوعية أيضًا البديل العملي لإنهاء عدم المساواة والقضاء على الفقر، وحتى الدول التي تبنتها مالت في النهاية إلى مزج نظامها مع مجموعة من المفاهيم الرأسمالية لتعزيز النمو والاستفادة من النظام العالمي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}