"كلما زادت الخيارات المتاحة أمام الناس، زادت حريتهم وتحسنت رفاهيتهم" .. هذا هو المبدأ السائد في كل المجتمعات الغربية الصناعية التي تؤمن بأن الطريق لمزيد من الحرية يأتي من كثرة الخيارات المتاحة.
بداية من الملابس ومروراً بالهواتف وانتهاء بالطعام والشراب، أصبح لدى الناس الكثير من الخيارات المتاحة للاختيار من بينها. وهذا من المفترض أن يكون أمراً جيداً بالنسبة لنا كمستهلكين، لأن المنطق يقول إنه كلما ازدادت الخيارات أصبح من السهل علينا العثور على أفضل جوال وأفضل ملابس أو أي سلعة أخرى. لكن هل هذا صحيح فعلاً؟
الغرق في الخيارات
أظهر الكثير من الدراسات أن كثرة الخيارات المتاحة أمامنا كمستهلكين يمكن أن يكون لها عواقب سلبية. ومن هذه الدراسات تلك التي نشرتها مجلة أبحاث المستهلكين في عام 1974 تحت عنوان "سلوك اختيار الماركة كدالة لتحميل المعلومات".
في إطار هذه الدراسة قام ثلاثة باحثين من جامعة بردو الأمريكية بعرض مجموعة متنوعة من منظفات الغسيل أمام عدد من الناس قبل أن يطلبوا منهم الاختيار بينها، ليجدوا أنهم عندما زادوا من عدد المنظفات المتاحة أمام المشاركين للاختيار وأعطوهم المزيد من المعلومات حولها، ولكن انتهى الأمر باختيارهم للمنتجات الأسوأ.
هذا في الحقيقة يحدث بسبب ظاهرة سماها الكاتب الأمريكي "ألفين تولفر" في كتابه "صدمة المستقبل" الصادر في عام 1970 "Overchoice" الخيارات الفائضة أو الزائدة عن الحاجة. فكثرة الخيارات المتاحة أمامنا تصيبنا بالحيرة وتجعلنا أقل رضا عن اختياراتنا مهما كانت وأحياناً تشل قدرتنا على الاختيار أصلاً.
ترتبط ظاهرة الخيارات الفائضة بظاهرة أخرى تسمى "التحميل الزائد للمعلومات"، وهو مصطلح صاغه أستاذ الاجتماع السياسي الأمريكي "بيرترام مايرون جروس"، ويعني أن توفير الكثير من المعلومات يعيق القدرة على التركيز والاستفادة منها.
ويحدث الحمل الزائد للمعلومات حين يتجاوز مقدار مدخلات النظام قدرته على الاستيعاب والمعالجة. فنحن كبشر لدينا قدرة معينة على المعالجة، وبالتالي حين نواجه بحمل زائد من المعلومات تتأثر جودة قراراتنا سلباً، في حين أن بعضنا قد يرفض الاختيار حتى لو أن قيامهم بالاختيار سيؤدي بهم إلى نتيجة أفضل.
البحث عن الخيار المثالي
من المفهوم أنه لا أحد يحب عدم وجود أي خيارات، ولكن ارتفاع عدد الخيارات المتاحة عن حد معين يدخل الناس في حالة من الضغط وعدم اليقين. فعندما يكون هناك الكثير من الخيارات المختلفة التي لا تبدو الفروق بينها واضحة تصبح عملية اتخاذ القرار صعبة على الناس، لأنهم يشعرون بأنهم ملزمون بالمفاضلة بين النتائج المحتملة المتعددة لخياراتهم ويخشون من اتخاذ قرار خاطئ.
أغلبنا يشعر أنه ملزم بالعثور على الاختيار المثالي، وهو ما يؤدي بنا إلى الإحباط والغضب في بعض الأحيان أو تجنب الاختيار أصلاً. هذا هو السبب وراء أننا أحياناً ندخل إلى السوبرماركت (خصوصاً السلاسل الكبيرة) بغرض شراء منتج معين ونخرج بلا شيء إلا لأننا غرقنا في كم الخيارات المتاحة منه لدرجة جعلتنا عاجزين عن الاختيار. وهذه الظاهرة تسمى "تجنب القرار".
كثير من المحلات تفترض أنها في حال قامت بتوفير المزيد من الخيارات لعملائها فإن من المرجح أن يشتروا لأنهم غالباً يجدون ما يبحثون عنه. ولكن ما لا يدركه هؤلاء هو أن احتمال قيام المستهلك بالشراء يقل كثيراً إذا وجد أمامه الكثير من الخيارات.
في عام 2000 نشر عالما النفس "شنا إينجار" و"مارك ليبر" من جامعتي كولومبيا وستانفورد دراسة حول المربات (تلك التي يوجد منها بالتين والفراولة وما إلى ذلك).
في إطار تلك الدراسة قام الباحثان في أحد الأيام بوضع 24 نوعاً مختلفاً من المربى على طاولة بأحد أسواق الطعام. وفي يوم آخر وفي نفس المكان تم وضع 6 أنواع فقط من المربى أمام الناس. هل يمكنك تخمين أي اليومين كان أفضل من حيث المبيعات؟
أعلى 10 مرات!
وجد الباحثان أنه في حين أن العرض الذي شهد وجود 24 نوعاً من المربى ولد الكثير من الاهتمام إلا أن الناس كانوا أقل إقبالاً على شراء حبة مربى في ذلك اليوم مقارنة مع اليوم التالي الذي شهد عرض 6 أنواع فقط بنحو 10 مرات! في الواقع قام 30% من الأشخاص الذين أقدموا على الطاولة حين كان عليها 6 أنواع فقط بالشراء، في حين أن 3% فقط هم من اشتروا في اليوم الآخر.
لاحقاً أفاد المشاركون في الدراسة الذين واجهوا خيارات محدودة بشعورهم بالرضا تجاه خياراتهم. في حين أن أولئك الذين كان عليهم الاختيار من بين العدد الأكبر أشاروا إلى أن الاختيار في هذا الوضع كان بمثابة عبء ثقيل عليهم.
تدرك بعض الشركات جيداً هذا التأثير وتستغله لصالحها، مثل شركة التجزئة الأمريكية "كوستكو". فبحسب خبيرة الإدارة "دينيس لي يوهن" تتعمد الشركة الأمريكية تقليل عدد الخيارات المتاحة من منتجاتها كاستراتيجية لجذب العملاء.
على سبيل المثال، لا توفر "كوستكو" في متاجرها سوى أربعة أنواع من معجون الأسنان، في حين أن منافستها "وول مارت" توفر للمستهلك 60 نوعاً مختلفاً من المعجون. ورغم ذلك تشير البيانات أن مبيعات الأولى من هذا المنتج أعلى من الثانية. أي أن استراتيجية الخيارات المحدودة لعبت في صالح "كوستكو".
ربما أفضل ما نختم به هو ما قاله "باري شوارتز" في كتابه "مفارقة الاختيار" الصادر في عام 2004: "كلما كان هناك المزيد من الخيارات زاد احتمال اختيار الشخص لخيار غير مثالي، وهو الاحتمال الذي يمكنه القضاء على أي متعة قد يحصل عليها هذا الشخص من اختياره الفعلي."
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}