نبض أرقام
10:10 ص
توقيت مكة المكرمة

2024/10/02
2024/10/01

معجزة اليابان الاقتصادية .. الجزء الخفي غير المروي الذي تكشفه وثائق الاستخبارات الأمريكية

2019/05/31 أرقام - خاص

في الثاني عشر من فبراير من عام 1994 اتجهت أنظار العالم نحو البيت الأبيض حيث تنعقد القمة الثنائية بين الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" ورئيس الوزراء الياباني الأسبق "موريهيرو هوسوكاوا"، وهي القمة التي جاءت كمحاولة أخيرة وحاسمة من الجانبين لتجنب الدخول في حرب تجارية.

 

 

وبعد مفاوضات استمرت لساعات خرج الرجلان ليقفا إلى جانب بعضهما في حديقة البيت الأبيض أمام الصحفيين قبل أن يبدأ "كلينتون" الحديث بكلمات بدت صادمة للجميع. قال "كلينتون" بغضب: "لقد كان بإمكاننا اليوم إخفاء خلافاتنا باتفاقات تجميلية، ولكن القضايا العالقة بيننا مهمة للغاية بالنسبة لدولنا ولبقية العالم. ولذلك أفضل عدم التوصل إلى اتفاق على التوصل إلى اتفاق فارغ".
 

كان "كلينتون" يحاول إقناع اليابان بفتح أسواقها أمام المنتجات الأمريكية وبالأخص السيارات وذلك بغرض تقليل حجم العجز التجاري بين البلدين البالغ في ذلك الوقت نحو 60 مليار دولار لصالح اليابان، وهو ما رفضه اليابانيون بشدة على الرغم من حقيقة أن السوق الأمريكي في المقابل كان مفتوحاً أمام شركاتهم.
 

سر غضب "كلينتون" وأعضاء إدارته في ذلك الوقت هو رفض اليابانيين رد الجميل للولايات المتحدة! ولكن هل كان للأمريكيين فعلاً جميل في رقاب اليابانيين؟ وما هو هذا الجميل؟
 

حين نتحدث عن العلاقات الأمريكية اليابانية فأول ما يتبادر إلى الذهن هو الهجوم النووي الذي شنته الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناجازاكي بسبب رفض اليابان تنفيذ إعلان مؤتمر بوتسدام الذي كان ينص على أن تستسلم اليابان استسلاما كاملا غير مشروط.



 

ولذلك حين يأتي "كلينتون" ويتحدث عن جميل يرفض اليابانيون رده فقد يصبح ذلك مثاراً للسخرية من جانب البعض. ولكن ما لا ندركه جميعاً تقريباً هو أنه لولا وجود الأمريكيين لما حققت اليابان معجزتها الاقتصادية التي تتفاخر بها أمام الجميع. فبدون مبالغة كانت الولايات المتحدة أحد الأسباب الرئيسية وراء القفزة التي حققها الاقتصاد الياباني بعد نهاية الحرب وحتى مطلع الثمانينيات.
 

وهذا ما تكشفه لنا وثائق الاستخبارات الأمريكية التي رفع عنها السرية في عام 1993، والتي تكشف لنا كواليس كثيرة من شأنها تغيير نظرتنا لطبيعة العلاقة بين الأمريكيين واليابانيين وكذلك طريقة تعاطينا مع التجربة الاقتصادية اليابانية.
 

خوفاً من الشيوعية
 

"يجب تسهيل دخول البضائع اليابانية إلى الولايات المتحدة" .. وردت العبارة السابقة في وثيقة سرية رفعها مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى الرئيس السابق "هنري ترومان" في عام 1953، أي بعد نحو 7 سنوات من استسلام اليابان للحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
 

وكان من ضمن التوصيات التي تضمنتها هذه الوثيقة، توصية بقيام الولايات المتحدة بالاستعانة باليابان كمصدر تجاري لجزء من الإمدادات التي تحتاجها القوات المسلحة الأمريكية، وكذلك استخدام البضائع اليابانية في إطار برامج المساعدات الأمريكية للبلدان الأخرى.
 

على خطى "ترومان" سارت إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دوايت أيزنهاور" واستمرت في دعم الصادرات اليابانية إلى السوق الأمريكي. وفي وثيقة صادرة عن مجلس الأمن القومي في عام 1953 أشار المجلس إلى أن "فتح الأسواق الأمريكية أمام البضائع اليابانية ضروري لوقف التدهور الاقتصادي وتراجع مستويات المعيشة في اليابان، وهما العاملان اللذان يخلقان أرضاً خصبة للتخريب الشيوعي".



 

بعد ذلك التاريخ بعام واحد، وتحديداً في عام 1954 أخبر وزير الخارجية الأمريكي "جون فوستر دالاس" الرئيس "أيزنهاور" ومجلس وزرائه أن الولايات المتحدة "يجب أن تتفاوض على اتفاقات تجارة دولية تعطي ميزة لليابان على غيرها" في محاولة لمواجهة الجهود الشيوعية الرامية لجذب طوكيو ناحيتها، وذلك وفقاً لما ورد بمحضر اجتماع سري عقده مجلس الوزراء الأمريكي في ذلك الوقت.
 

في وقت لاحق من نفس العام، نصحت سفارة الولايات المتحدة بطوكيو الحكومة اليابانية بتقليل وارداتها من سلع الاستهلاكية والتركيز بدلاً من ذلك على استيراد السلع التي يمكن استخدامها كمدخلات لإنتاج سلع أخرى تبيعها اليابان لاحقاً إلى الأسواق الأجنبية.
 

على حساب الشركات الأمريكية
 

كجزء من الجهود المبذولة لإعادة بناء الاقتصاد الياباني وضمان بقاء طوكيو حليفاً وعدم الارتماء في أحضان الشيوعية التي كانت تتوسع بسرعة في أرجاء آسيا ساعد المسؤولون الأمريكيون نظراءهم اليابانيين على تدشين مجموعة من السياسات الاقتصادية الحمائية التي تعطي ميزة للمنتج الياباني أمام الأجنبي.
 

وصل الأمر إلى حد أن الجهات التنظيمية الأمريكية كانت تنحاز بشكل دائم تقريباً إلى الشركات اليابانية أثناء نظرها في الشكاوى المقدمة من الشركات الأمريكية ضد نظيرتها اليابانية، بالإضافة إلى فشل واشنطن في إجبار طوكيو على السماح للشركات الأمريكية بالاستثمار بالسوق الياباني.
 

ليس هذا فقط، ففي أثناء الحرب الكورية التي اشتركت فيها الولايات المتحدة إلى جانب كوريا الجنوبية في مواجهة جارتها الشمالية والصين منحت واشنطن عقود تموين وإمداد قواتها العسكرية لصالح الشركات اليابانية.



 

هذا طبعاً إلى جانب معونات سنوية تقدر بنحو 750 مليون دولار كانت تصل طوكيو من الجانب الأمريكي. ولكن لعل أبرز خدمة قدمتها الولايات المتحدة لليابان في تلك الفترة هي قيام واشنطن بحث البنك الدولي على الموافقة على قروض إعادة الإعمار التي حصلت عليها طوكيو، وذلك على الرغم من اعتقاد مسؤولي البنك الدولي بأن اليابان لم يكن لديها الجدارة الائتمانية الكافية في ذلك الوقت.
 

ومن المفارقات الظريفة هي أن أبرز المخاوف الأمريكية في ذلك الوقت الاعتقاد بأن المنتجات اليابانية لن تكون جيدة بما يكفي للمنافسة في الأسواق العالمية.
 

وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية الأمريكي "فوستر دالاس" في اجتماعه مع مجلس الأمن القومي في 12 سبتمبر 1954 بعد عودته من رحلة إلى طوكيو قال إنه نصح خلالها رئيس الوزراء الياباني "يوشيدا شيجه-رو" بتوجيه منتجاتهم إلى أسواق شرق آسيا بدلاً من الولايات المتحدة، وذلك على اعتبار أنها ليست جيدة بما يكفي للمنافسة في السوق الأمريكي.
 

نكران للجميل؟
 

الرئيس "أيزنهاور" الذي كان يشعر بالقلق الشديد من احتمال وقوع اليابان المعدمة اقتصادياً فريسة للشيوعية لم يعبأ بكلام وزير خارجيته، وطلب بشكل شخصي من المصنعين الأمريكيين شراء المنتجات اليابانية حتى لو كانت دون معايير الجودة في الولايات المتحدة.
 

وأثناء حضوره عشاء عقد على هامش إحدى حفلات جمع التبرعات للانتخابات الرئاسية في عام 1957 بشيكاغو، قال "أيزنهاور" لـ"روبرت جالفين" الرئيس السابق لشركة "موتورولا": "يتعين على شركات مثل شركتك أن تتعامل مع اليابان، لأن هذا البلد يجب أن يصبح سليمًا اقتصادياً."



 

خلال ما تبقى من خمسينيات القرن العشرين وطوال الستينيات عمل "جالفن" بنصيحة "أيزنهاور" وحرص على أن تقوم "موتورولا" بالاستعانة بخدمات الموردين اليابانيين، بل وذهبت شركته إلى أبعد من ذلك، حيث قامت بتعليم اليابانيين كيفية إنتاج الأجزاء والقطع الإلكترونية مثل المقاومات والصمامات المفرغة بجودة عالية تطابق المواصفات الأمريكية.
 

رغم كل هذه المساعدات التي تلقتها اليابان من الولايات المتحدة، كانت هناك إشارات في التعاملات الدبلوماسية بين البلدين في الخمسينيات توضح أن طوكيو لم تكن تقدر تمام التقدير الجهود الأمريكية ولم تكن تشعر بأن هناك ما يجب أن تشكر عليه الأمريكيين.
 

على سبيل المثال، أرسل وزير الخارجية الأمريكي "فوستر دالاس" برقية إلى السفارة الأمريكية في طوكيو في ديسمبر 1953 قال فيها الآتي:
 

"إن اليابانيين يطلبون باستمرار المزيد والمزيد من الولايات المتحدة دون أن يشعروا بأن عليهم أي التزام بالقيام بما هو ضروري لتعزيز الأمن بآسيا.. أعتقد أن الوقت قد حان لكي يدرك القادة اليابانيون أنهم لا يستطيعون توقع أن يكونوا الطرف المتلقي للمساعدات دون القيام بأي جهد في المقابل."
 

بعد 8 أشهر فقط أرسل "فوستر" برقية سرية أخرى إلى السفارة الأمريكية بطوكيو قال خلالها: "لقد شعرت بخيبة أمل لأن اليابان تمتنع حتى الآن عن بذل أي مجهود من جانبها وتتوقع على ما يبدو أن تستمر الولايات المتحدة في الاعتناء بها."



 

كان هذا جزءًا من وثائق سرية تظهر أن المعجزة الاقتصادية اليابانية كانت ترجع بشكل جزئي إلى الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة في مساعدة اليابان خشية أن تقع الأخيرة فريسة للشيوعية. وبينما لا يمكننا إنكار حقيقة أن روح الشعب الياباني المجتهد كانت سبباً أساسياً في نجاح بلاده بعد الحرب، إلا أن الوثائق تظهر أنه لولا واشنطن لما كانت هناك اليابان التي نعرفها اليوم.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.