في عام 1893 نشر عالم وظائف الأعضاء الروسي "إيفان بافلوف" كتاباً تحت عنوان "عمل الغدد الهضمية" عرض خلاله خلاصة دراسات وأبحاث أجراها لمدة 12 عاماً حول فسيولوجيا النشاطات العصبية الحركية، والتي حصل بفضلها على جائزة نوبل في الطب في عام 1904.
وفي هذا الكتاب قدم "بافلوف" نظريته الشهيرة "الفعل المنعكس الشرطي" أو "الإشراط الكلاسيكي" والتي بدأت قصة اكتشافها عندما كان "بافلوف" يجري أبحاثه الخاصة بالإفرازات اللعابية عند الكلاب، حيث اكتشف أن لعاب الكلاب بدأ بالسيلان قبل أن يصل الطعام إلى أفواهها.
لاحظ "بافلوف" أيضاً أن لعاب الكلاب يسيل لمجرد رؤية الحارس الذي يقدم لها الطعام قادماً من بعيد أو لدى سماع خطواته أو بمجرد سماع صوت الجرس، وهو ما جعله يستنتج أن سيلان اللعاب لا يتم على أثر احتكاك الطعام بالغدد اللعابية الفموية فقط بل أن ذلك يتم أيضا تحت تأثير بعض الإشارات التي تعودت الكلاب على استقبالها قبل وصول الطعام.
ببساطة، يسيل لعاب الكلاب بمجرد رؤية من يقدم لها الطعام أو لدى سماع خطواته أو سماع الجرس الذي يرن عادة قبل وصول الطعام لا لشيء إلا لأنها تعودت على الحصول على الطعام بمجرد ظهور تلك الإشارات. هذا هو الفعل المنعكس الشرطي.
كيف تلاعبنا الشركات
في كتابه الشهير "التأثير: علم نفس الإقناع" الصادر في عام 1984 يروي "روبرت سيالديني" قصة صديق له كان يعاني من عدم قدرته على بيع نوع معين من المجوهرات المصنعة من الفيروز. قام الرجل بكل الحيل التسويقية الممكنة وفشل في تعزيز مبيعات ذلك النوع.
استمر الوضع على تلك الحال إلى أن وقعت مصادفة طريفة جداً. حيث قام أحد العاملين بالمحل عن طريق الخطأ بوضع سعر يعادل ضعف السعر الأصلي أمام المجوهرات الفيروزية. والمدهش هو أنه لم يمر أكثر من 24 ساعة قبل أن تباع كافة مخزونات المحل من ذلك النوع.
نظرية "بافلوف" ربما هي النظرية الوحيدة التي بإمكانها أن تفسر لنا هذا السلوك الغريب من جانب الزبائن. ببساطة، هؤلاء الزبائن – الذين ربما لا يعرف معظمهم الفيروز – يرتبط السعر الغالي في أذهانهم بالقيمة العالية، ولذلك بمجرد أن رأوا هذا السعر المرتفع أمام تلك المجوهرات اعتقدوا أنها بالغة القيمة وتستحق ذلك السعر.
في عام 1996 ألقى "تشارلي مونجر" نائب رئيس شركة "بيركشاير هاثاواي" ورفيق درب رئيسها "وارن بافيت" محاضرة تحت عنوان "فكر عملي حول الفكر العملي" قام خلالها بشرح كيفية استخدام شركة "كوكاكولا" لنظرية "الإشراط البافلوفي" كجزء من استراتيجيتها للتسويق لمشروباتها الغازية.
قال "مونجر": "إن النظام العصبي لكلب بافلوف يجعله يفرز اللعاب بمجرد سماع صوت الجرس الذي لا يستطيع أكله. وبنفس الطريقة تحفز الدماغ المستهلك على الحصول على المشروب الغازي الذي تحمله في الإعلان امرأة جميلة لا يستطيع الوصول إلى مثلها. كل الأعمال التجارية الناجحة تعتمد في الترويج لمنتجاتها على ربط المنتج في عقول المستهلكين بالأشياء التي يحبونها."
لعقود من الزمان تركزت استراتيجية "كوكاكولا" على خلق حالة من الارتباط الشرطي القوي بين مشروباتها وبين السعادة في أذهان المستهلكين. وبالمناسبة، كوكاكولا" ليست هي الشركة الوحيدة التي تقوم بذلك. ففي هذه الأيام تقوم صناعة الإعلان الحديثة بالكامل على نظرية "بافلوف".
كل منتجات شركة "آبل" على سبيل المثال كـ"آيفون" و"آي ماك" ترتبط في أذهان المستهلكين بأن مستخدمي تلك الأجهزة في وضع اجتماعي مميز، ويشعرون بتفوق وتميز لا يشعر بهما غيرهم من مستخدمي العلامات التجارية الأخرى. وهكذا ارتبطت منتجات الشركة الأمريكية في أذهان الناس بالتميز.
في سوق الأسهم
سوق الأسهم ليس بعيداً عن انعكاسات نظرية الإشراط الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال يعتقد الكثير من المستثمرين أن المؤشر الرئيسي لسوق الأسهم هو الممثل الحقيقي والدقيق للاقتصاد ككل، ولكن هذا غير صحيح. حيث إن المؤشر مهما كان حجمه لا يعكس الحالة الصحية للسوق أو الاقتصاد بشكل عام.
لذلك بمجرد أن يهبط المؤشر تنطلق بين جمهور المستثمرين استجابة مشروطة وهي الذعر والخوف والذي يدفع الكثير من المستثمرين إلى البيع وتصفية مراكزهم من دون حتى أن يلقوا نظرة على أساسيات الشركات التي يتخلصون من أسهمها للتأكد مما إذا كانت تغيرت بالفعل أو لا.
بنفس الطريقة ترتبط الأسهم ذات مكرر الربحية المنخفض في أذهان الكثير من المستثمرين باعتبارها فرصا يجب اقتناصها، ولكن هذا الارتباط الشرطي غير دقيق حيث إنه في كثير من الأحيان تكون هذه الأسهم عبارة عن فخاخ قد تؤدي إلى وقوع المستثمر في كوارث مالية.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}