بعيداً عن حسابات الأرقام ومؤشرات الربح والخسارة، جاء قيام جامعة هارفارد العريقة بتسليط الضوء على بنك الكويت الوطني في دراسة خاصة ليشكل انجازاً آخر في مسيرة البنك، وليضيف لتجربة البنك بعداً أكاديمياً فريداً هو الأول من نوعه على مستوى المنطقة.
فقد أشارت دراسة هارفارد الى أن بنك الكويت الوطني قد أتقن القدرة على التفوق على الأزمات من خلال معاصرته لثلاث أزمات رئيسية استطاع التغلب عليها والخروج منها محافظاً على ثباته وقوته، وهي تباعاً أزمة المناخ في عام 1982 التي كان للقطاع المصرفي نصيب وافر من تداعياتها، أزمة الغزو العراقي عام 1990 وأخيراً الأزمة المالية العالمية في عام 2008، واللافت أن البنك استطاع خلالها تقديم نموذج استثنائي في التعاطي مع تداعياتها على الرغم من اختلاف أسبابها ونتائجها، فالأزمات التي عاصرها «الوطني» لم تكن الا فرصة ليعيد من خلالها تسليط الضوء على سياسة التحفظ الحكيمة المعتمدة في زمن الفورات والازدهار الاقتصادي، وابتكاره لتوازن دقيق بين معايير متناقضة في المفاهيم المحاسبية المالية: ما بين الأرباح، السيولة، الضمان وتعزيز الاحتياطيات، حتى يقال ان لـ«الوطني» فنا خاصا في التعاطي مع الأزمات!.
المصارف في عين العاصفة
فعلى الرغم من أن أزمة المناخ كانت من أعمق الأزمات التي ترتب عليها نتائج اجتماعية، فان القطاع المصرفي كان من بين القطاعات الأكثر تضرراً لا سيما ان الانهيار الذي حصل ترافق مع انهيار حاد في أسعار الأصول وخسائر رأسمالية ضخمة، بالاضافة الى عجز شريحة واسعة من المدينين عن الوفاء بالتزاماتهم تجاه النظام المصرفي.
كانت الاجراءات الحكومية كافية لتعكس فداحة تلك الأزمة على القطاع المصرفي، حيث ضخت الحكومة فيه ودائع بقيمة 1.5 مليار دينار بفائدة تتراوح بين صفر و1 في المائة، حتى تستطيع تجاوز تلك التداعيات، واذا كان لجوء تلك المصارف للاستفادة من تلك البرامج خياراً قسرياً وحتمياً في تلك المرحلة،وذلك بعد ان فاقت مخصصات الديون المعدومة لدى بعضها رؤوس أموالها، فقد كان بنك الكويت الوطني المصرف الوحيد الذي غرد خارج السرب، اذ أنه لم يكن مضطراً الى اعتماد هذا الخيار، حتى أنه أطلق عليه آنذاك «البنك الفائض الوحيد» بالنظر الى قدرته على المحافظة على أوضاعه المالية المتينة وجودة المحفظة الائتمانية.
وتشير هارفارد الى أن «الوطني» أولاً لم يتعامل مع هذه الأزمة بشكل آني أو مرحلي، بل أنه لطالما حذر منها سواء بشكل علني أو في تصريحات مسؤوليه أو من خلال التقارير الاقتصادية الدورية الصادرة عن ادارة البحوث، من امكانية حصول الكارثة منذ الارهاصات الأولى للأزمة أي منذ عام 1976، وترافقت تلك التحذيرات مع اتخاذ اجراءات تحّوطية تحسباً لتغير الظروف تزامنت مع خطوات داخلية تعزز مفهوم العمل المؤسسي، كان بينها تحويل دائرة «الاقتصاد والبحوث» الى ادارة مستقلة وتعزيز استراتيجية التوسع بما يضمن تنويع مصادر الدخل قطاعياً وجغرافياً. ومع استمرار الاقبال على شراء الأسهم، كانت ادارة البنك ترفع من مستوى تحذيرها عبر تقارير دورية مسبقة معبرة عن مخاوفها من حصول فقاعة. وهو ما عكس قدرة الادارة العليا على قراءة التطورات الاقتصادية الحاصلة بعمق.
أما العامل الثاني والأهم فيكمن في أن البنك حرص على البقاء بعيداً عن كل التعاملات المرتبطة بسوق المناخ في أدق تفصيلها، اذ أن البقاء خارج تداعيات الاعصار ما كان ليتحقق لولا قدرة ادارته على المحافظة على جودة محفظته الائتمانية والادارة الصارمة للمخاطر من حيث تفادي اقراض المضاربين والمتعاملين في سوق المناخ، مما يعيد التأكيد على تكريس خيار السياسة المتحفظة، وما كاد عام الكارثة لينتهي الا وكان الوطني المؤسسة الوحيدة سواء على مستوى المصارف أو السواد الأعظم من الشركات، أنهى ذلك العام بتحقيق أرباح صافية بقيمة نحو 20 مليون دينار كويتي بزيادة نسبتها 25 في المائة عن العام السابق.
الغزو العراقي
لم يكد يمر عقد من الزمن على أزمة المناخ، حتى أطلت أزمة الغزو العراقي للكويت التي يصفها الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك الكويت الوطني ابراهيم دبدوب بأنها «أصعب موقف في مسيرتي المهنية». مصدر صعوبة الموقف لا يمكن فقط في أن المقر الرئيسي للبنك أصبح يرزح تحت نير الاحتلال، لا بل في التغيرات الجذرية ومحاولة فرض واقع مالي جديد كنتيجة طبيعة للاحتلال، تجلت في التقلبات الكبيرة في عرض النقد والنقد المتداول، تجميد الأرصدة المصرفية، الغاء أو تجميد الجزء الأكبر من عرض النقود، محاولة سلطات الاحتلال الغاء التعامل بالعملة الوطنية. غير أن القصة الأهم تبقى في كيفية نجاح بنك الكويت الوطني على الرغم من الظروف الاستثنائية بالاستمرار في نشاطه التشغيلي والوفاء بالتزاماته المالية تجاه المؤسسات الدولية، في حكاية أشبه بالقصص المستحيلة، الى حد دفعت صحيفة الـ Financial Times المرموقة الى القول: «ان ما قام به بنك الكويت الوطني خلال الغزو تجربة غير مسبوقة في تاريخ المصارف حول العالم، مشيرة الى أنها أول حالة من نوعها يبقى فيها الجسد يعمل وهو مقطوع الرأس؟!».
تحدي الاحتلال والقرار التاريخي
فور شيوع خبر الاحتلال صباح الثاني من أغسطس من عام 1990، دعا الرئيس التنفيذي للمجموعة إلى اجتماع عاجل لمجلس الإدارة في فرع البنك لندن، وكان أن تزامنت تلك المرحلة مع موسم الإجازات الصيفية، إذ كان مقدراً أن يتواجد معظم الأعضاء في عاصمة الضباب، حيث بحث الاجتماع الخيارات المطروحة وكيفية التعاطي مع التطورات الحاصلة في ظل تلك الظروف الاستثنائية، وفي هذا السياق يستذكر إبراهيم دبدوب معالم تلك المرحلة بالقول: كنا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما إغلاق البنك، وأن نجلس في بيوتنا على اعتبار أن المقر الرئيسي كان محتلاً في انتظار ما ستفسر عنه الأيام المقبلة، أو البحث في الوسائل البديلة التي تضمن استمرار العمل. ويضيف: غير أن مثل هذا الخيار الأخير اصطدم بعقبتين: عدم توافر السيولة الكافية لدى البنك، والعقبة الأهم عدم وجود صفة قانونية وشخصية اعتبارية لفرع لندن، مشيراً إلى أنه وفي ظل الاحتلال «قد لا نجد من يعترف بنا من قبل المصارف العالمية».
على الرغم من التحديات والمخاطر التي كان يفرضها الخيار الثاني، إلا أن مجلس الإدارة قرر وبالإجماع السير فيه، والتأكيد على مواصلة البنك لعملياته المصرفية، سواء لمصلحة عملائه أو تجاه التزاماته الدولية، فيما لم يكن التاريخ المصرفي على مستوى العالم أن عرف تجارب مماثلة باستثناء محاولة يتيمة سعى خلالها مصرف فرنسي الاستمرار في العمل عن طريق فرعه في سويسرا خلال حقبة الاحتلال الألماني لفرنسا، لكنه لم يستطع مواصلة خططه، وما لبث أن أقفل أبوابه بعد شهر واحد على الاحتلال، ومع ذلك أخذت الإدارة التنفيذية على عاتقها وضع توجهات مجلس الإدارة على سكة التطبيق، والتي تركزت أهدافها في الآتي:
- دعم القوة المؤسساتية للبنك.
- التأكيد على أن مختلف الأصول خارج دولة الكويت تحت السيطرة.
- تنفيذ كل الالتزامات المترتبة على البنك في أوقاتها المحددة.
- إدارة موقف البنك المالي لجهة إدارة السيولة بكفاءة في ظل الظروف الدقيقة.
جهود جبارة على المستوى الدولي
هنا بدأت تبرز إلى العلن أهمية السمعة التي اكتسبها البنك في الأوساط المالية والمصرفية العالمية، بالإضافة إلى العلاقات الاستراتيجية التي كانت الإدارة التنفيذية قد نسجتها مع شخصيات مهمة في مواقع القرار في المؤسسات العالمية، مثل محافظ بنك انكلترا المركزي في ذلك الوقت إيدي جورج الذي كانت تربطه بالبنك علاقات وطيدة، فبدا متفهماً لتلك الظروف.. وبالفعل حصل البنك على كتاب من البنك المركزي البريطاني، يمنح فرع لندن الشخصية الاعتبارية والصفة القانونية كون المركز الرئيسي كان يرزح تحت الاحتلال، وما كاد ذلك اليوم العصيب لينتهي، حتى تم إبلاغ قرار مجلس الإدارة إلى جميع البنوك المراسلة التي يتعامل معها الوطني من خلال نظام سويفت (Swift).
ومع مرور الأيام الأولى على الاحتلال، تعرضت مختلف أصول واستثمارات الكويت حول العالم إلى التجميد تنفيذاً للقرارات المتخذة من قبل الأمم المتحدة والسلطات النقدية حول العالم، في خطوة وقائية تهدف لمنع استغلالها من قبل سلطات الاحتلال، ونتيجة هذه الإجراءات، فكان أن ألحقت مختلف أصول البنك الخارجية بقرار التجميد والحجز عليها، ربما بفعل التباس سببه اسم البنك، وهو ما تطلب بذل جهود إضافية لرفع مثل الحجز عن تلك الأصول كشرط رئيسي لعودة ممارسة النشاط التشغيلي، غير أن خطوة المركزي البريطاني والجهود الأخرى عجلت إتمام الخطوة، إذ حصل «الوطني» على حق التصرف بكامل أصوله وتحريك أمواله.
وبغض النظر عن حجم التعاطف الذي اكتسبته قضية الكويت آنذاك وتالياً مؤسساتها، فإن النجاح في الحصول على السيولة عكست حقيقتين لا يمكن تجاوزهما: الأولى أن توفير السيولة نفسها كعملية تقنية تجاوزت في أبعادها أهمية الحصول عليها، لتعكس حجم الثقة والسمعة التي كان يحظى بها «الوطني» لدى المؤسسات المصرفية والمالية العالمية، التي لولاها لأحجمت تلك الأخيرة عن التعامل معه. أما الحقيقة الثانية فتعكس جودة أصول المحفظة الاستثمارية وتنوعها ما بين استثمارات قصيرة وطويلة الأجل والتي لولاها لما كان بالإمكان اللجوء إلى خيار التسييل.
أزمة عام 2008 وما بعدها..
ووفق هارفارد، لم تكن الأزمة المالية العالمية التي حصلت في عام 2008، استثناء عن الأزمات السابقة التي عاصرها «الوطني» في السابق، فعلى الرغم من تداعياتها التي وصفت بأنها الأقسى منذ الكساد الكبير واستمرت فصولاً، عاد بنك الكويت الوطني ليقدم مرة أخرى نموذجاً يحتذى في التعاطي مع الظروف الاقتصادية الاستثنائية، إذ لم تكن كلمة السر لتختلف عن المرات السابقة، فقد استخدم البنك الوصفة نفسها، المتمثلة بالسياسة المتحفظة والمتجذرة في تاريخه المتواصل منذ ستة عقود، كإحدى أبرز أسس هذا النجاح.
وإذا كان عنصر المفاجأة شكل القاسم المشترك بين الأزمات الثلاث التي اختبرها البنك أي المناخ، الغزو والأزمة المالية العالمية، وإن بنسب مختلفة، إلا أن مما لا شك فيه أن أزمة عام 2008، شكلت اختباراً مهماً، فهي أتت بعد مرحلة من الازدهار الاقتصادي، سواء على مستوى المنطقة أو في الأسواق العالمية، كما ترافقت مع عمليات جني أرباح واسعة نتيجة العوائد المرتفعة في مختلف المجالات الاستثمارية، ولعل هذا الواقع شكل عاملاً حاسماً في إعادة «الوطني» إلى نقطة الضوء في خضم مرحلة الأزمة، إذ أظهر مرة جديدة مناعة في مواجهة تداعياتها، وهو ما تجلى بشكل واضح في نتائجه المالية، ففي الوقت الذي سجلت المصارف العالمية والإقليمية خسائر ضخمة وتراجعات كبيرة في أرباحها، قدرت على سبيل المثال بنحو 70.09 في المائة على مستوى القطاع المصرفي في الكويت، الذي تراجعت أرباحه الصافية من نحو 1.035 مليار دينار كما في نهاية عام 2007 إلى نحو 309.56 ملايين دينار كما في نهاية عام 2008، جاءت أرباح «الوطني» عن ذلك العام لتستحوذ على نسبة 83.48 في المائة من إجمالي أرباح القطاع، حيث استقرت عند ما قيمته نحو 255.349 مليون دينار، وبالتالي فإن أي تأثر حصل في النتائج المالية مرده إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، سواء في الكويت أو الخليج وحتى في الأسواق العالمية، كنتيجة طبيعية للأزمة.
جودة المحفظة الائتمانية
ولعل المتابع لأداء البنك في تلك الفترة، يدرك تماماً أن هذه النتائج شكلت ثمرة لاستراتيجية البنك الراسخة بالابتعاد عن الأدوات الاستثمارية العالية المخاطر من مشتقات مالية وأدوات أخرى ذات هيكلية معقدة والرهن العقارية، وعدم الانجرار خلف إغراءات العوائد المالية المرتفعة والأرباح السريعة لبعض النماذج الاستثمارية في المنطقة كالاستفادة من الفورة العقارية في المنطقة أو شركات الاستثمار في الكويت، وهو ما جعل البنك يحافظ على جودة محفظته الائتمانية التي بقيت محل إشادة من قبل وكالات التصنيف العالمية المتخصصة، ما دفع الأخيرة إلى إعادة تأكيد احتفاظ البنك بالتصنيف الائتماني الأعلى على مستوى منطقة الشرق الأوسط، حتى في خضم هذه الأزمة.
سر الخلطة
1 - سياسة تحفظ حكيمة موروثة من الرعيل الأول
2 - إدارة تنفيذية ذات رؤية استشرافية ثاقبة
3 - توازن دقيق بين الأرباح والسيولة وتعزيز الاحتياطات
4 - إدارة صارمة للمخاطر وعدم الانجراف مع المضاربين
5 - عدم الانجرار خلف إغراءات العوائد المرتفعة
6 - الابتعاد عن المنتجات والخدمات المهيكلة والمعقدة
7 - توفيق بين معايير متناقضة في المفاهيم المحاسبية والمالية
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}